خلال فترة الحرب الأخيرة والقصيرة في العراق، أبدت مجموعة من الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط مخاوفها الاقتصادية أثناء تلك الفترة وبعدها من خلال الركود النسبي في قطاعي السياحة والطيران وعودة العمالة الأجنبية من المناطق المجاورة لدائرة الحرب مما قد يؤدي إلى انخفاض مستويات تدفق العملات الأجنبية التي تعتبر من المقومات الداعمة اقتصادياً في بعض الحالات ما من شأنه أن يساهم سلباً في احتياطي العملات الأجنبية وبالتالي زيادة الضغوط السلبية على قيمة العملة المحلية بشكل خاص والاقتصاد الكلي للدولة بشكل عام، بالاضافة إلى المخاوف من سيطرة القوى الأجنبية على أجزاء هامة من اقتصاديات المنطقة الخليجية مما سينعكس سلباً على دول المنطقة الأخرى التي تعتمد بشكل أساسي على اقتصاديات الدول الخليجية.
أما دول الخليج العربي التي تعتبر أغنى دول العالم نفطياً مما جعلها في الوقت نفسه أكثر دول العالم تأثراً بالانخفاضات الحادة في أسعار البترول، فيتوقع لها أن تواجه مشاكل اقتصادية حادة إذا لم تتغير مجموعة من العوامل الأساسية باستثناء عامل النفط. فمع انتهاء فصل الشتاء وبداية الربع الثاني لهذا العام والذي يقترن عادة بانخفاض في مستويات الطلب، مصحوباً بتلاشي عوامل التوتر وعدم التأكد والتي كانت السبب الرئيسي في ارتفاع أسعار البترول في ربع السنة الماضي، فإنه من المؤكد أن تشهد الأشهر القادمة تراجعاً ملحوظاً في الأسعار خاصة في ظل المرونة المفرطة التي تتبعها منظمة الأوبك وعدم قدرتها على التصدي للقوى الخارجية. ولذا نستطيع القول إن الحرب الاقتصادية قد بدأت بالنسبة لاقتصاديات دول الخليج النفطية.
إن آخر ما تحتاجه اقتصاديات الدول النفطية الخليجية في الوقت الراهن هو التراجع السريع في أسعار النفط خاصة بعد النتائج الايجابية والتي تحققت في الربع الأول من هذا العام. فبعد أن سادت موجة من التفاؤل في الأوساط الاقتصادية الدولية لدرجة أن بعضها أشار إلى امكانية تحقيق فائض في موازنات بعض الدول الخليجية لهذا العام، نعتقد أنه آن الآوان لأن تراجع تلك الدوائر الاقتصادية، خاصة صندوق النقد الدولي، حساباتها اعتماداً على التوقعات المتعلقة بمجموعة من المتغيرات المؤثرة في أسواق النفط، فالتوقعات التي بنيت على أساس متوسط سعري في حدود 27 دولاراً للبرميل لا يمكن أن تتماشى مع معطيات الأوضاع المستقبلية على المدى الزمني القريب والتي تشير إلى أنه قد تكون هناك صعوبات في الحفاظ على متوسط سعري أقل من ذلك بما يعادل 30% على الأقل خاصة إذا ما كانت هناك نوايا غير معروفة لشن الحرب الاقتصادية على مستويات شاملة في منطقة الشرق الأوسط.
أما لو أخذنا الحالة الخاصة والمتعلقة باقتصاد المملكة العربية السعودية، فإننا نجد الأمر أكثر تعقيداً. فاستمرار تزايد الديون الحكومية في ظل عدم امكانية الاطفاء أصبح يشكل هماً وطنياً من خلال ارتفاع مستويات تكاليف خدمة الدين والتي تستهلك ما يقارب 15% من النفقات الاجمالية للدولة وذلك على حساب الخدمات الحيوية الأخرى كالصحة والتعليم واعانات أصحاب الدخل المحدود. ولذا فان انخفاض ايرادات صادرات البترول سيؤدي بالتأكيد الى ارتفاع مستويات تلك الديون عندما تجد الحكومة نفسها في مواقف تستدعي الاقتراض. كما أن مثل ذلك السيناريو سيؤدي أيضاً إلي التأثير سلباً على ميزان المدفوعات التي تعتبر الايرادات النفطية الداعم الأساسي له في ظل ارتفاع مستويات الحوالات الخاصة كنتيجة حتمية لضعف الانتاجية في سوق العمل المحلي مما جعل المواطن أداة استهلاكية أكثر منه انتاجية، وهذه إحدى القضايا التي لابد من طرحها ومناقشتها على جميع المستويات الادارية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن هذا المنطلق، فإن الأوساط الاقتصادية والمالية والتجارية في السعودية تتطلع، كتعويض عن أضرار تراجع اسعار النفط، إلى أن يكون لها دور أولي في الاستثمارات المحتملة لانشاء البنية التحتية في العراق خاصة وان ايرادات انتاج العراق من النفط في السنوات القادمة ستؤول إلى صندوق سداد النفقات الحالية مما يعني التناقص السريع في الفرص الاستثمارية في الوقت الراهن. ولابد من الاشارة إلى أن عامل استقرار اسعار النفط عند مستويات معتدلة من وجهة نظر المنتجين والمستهلكين يعتبر المصدر الرئيسي لاستقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية خاصة على المدى الزمني القصير الذي لا يعتقد أن يشهد تطوراً ملحوظاً في سلوكيات العمل والانتاجية كبديل مرادف لفترات انخفاض العائدات النفطية.
وحتى نتمكن من القيام بتغطية شاملة لهذه القضية المستقبلية والتي بدأت آثارها المبدئية تظهر على السطح العام في الوقت الراهن، استطلعنا رأي احدى الشخصيات البارزة في الجانب الأمريكي وهو السفير الأمريكي في الرياض روبيرت جوردان وذلك من خلال طرح المحاور التي يعتقد أن لها علاقات مباشرة وشبه مباشرة بمستقبل الأوضاع الاقتصادية في المنطقة العربية والخليجية بشكل عام والسعودية بشكل خاص.
وخلال تعليقه على فترة ما بعد الحرب من ناحية تأثيراتها السلبية على الأوضاع الاقتصادية في المنطقة،، يقول السفير الأمريكي ان ازاحة النظام العراقي السابق عن الحكم يعتبر بالتأكيد عاملا من عوامل الكسب الاقتصادي للمنطقة. ومع أن من المفارقات ان تؤدي حالات عدم الاستقرار السياسي الى ارتفاع في أسعار النفط، إلا أن ارتفاع عائدات النفط لا يعني بالضرورة ارتفاعا في معدلات النمو الاقتصادي. ثم يضيف السفير الأمريكي انه خلال السنوات العشر الماضية كان عامل انخفاض مستوى استثمارات القطاع الخاص السبب الرئيسي في تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في السعودية بسبب ان مجموعة من الأثرياء السعوديين استثمروا رؤوس اموالهم في الخارج لتخوفهم من عدم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة.
ومن ناحية ا خرى، يرى السفير الأمريكي ان حالة الاستقرار السياسي في المنطقة قد قطعت شوطاً مهماً في الاتجاه الايجابي وذلك بعد الأحداث الأخيرة، ومع ذلك فلا يمكن تفادي بعض الخسائر الآنية حيث يتوقع أن تؤدي الأسعار المتدنية للنفط الى انخفاض العائدات النفطية على المدى الزمني القصير. ولكن على مستوى المدى الزمني المتوسط، يتوقع أن يؤدي عامل الاستقرار السياسي والأمني الى زيادة مستويات الاستثمارات مما من شأنه ان يؤدي إلى رفع مستويات الرخاء والنمو الاقتصادي.
أما فيما يتعلق بالتعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية اقتصادياً أسوة بالعامل العسكري وعلاقة ذلك بالصعوبات المالية والسياسات النقدية والمالية في السعودية، يقول السفير الأمريكي ان الولايات المتحدة الأمريكية تسعى وبشكل مستمر إلى اجراء المباحثات الثنائية مع الدول الصديقة حول العالم. وغالباً ما تكون القضايا الاقتصادية والتجارية من المواضيع الرئيسية في المباحثات الثنائية مع المسؤولين في السعودية بصفتها الأكبر في العالم العربي من ناحية التبادل التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وتلبية لطلب من الحكومة السعودية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية مستمرة في مناقشة القضايا الاقتصادية المشتركة كمسألة الانضمام الى منظمة التجارة العالمية. أما فيما يتعلق بالسياسات النقدية والمالية السعودية، يقول السفير إن السعودية حققت خلال العشرين السنة الماضية معدلات متميزة فيما يتعلق باستقرار الاقتصاد الكلي كما توضحه حالة الاستقرار في معدل صرف العملة وانخفاض معدل التضخم وقوة النظام المصرفي.
وعن امكانية مشاركة القطاع الخاص السعودي في مشاريع اعمار العراق، يقول السفير الأمريكي ان الشركات السعودية تملك قدرات تنافسية عالية في مجالات عديدة، خاصة صناعة الأغذية وصناعة الأجزاء الالكترونية. وبسبب عامل الجوار بين الدولتين، فان التبادل التجاري المشترك يعتبر من الأمور الطبيعية، ولكن في المرحلة المبدئية لمشاريع الاعمار، ستقوم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاقد مع الشركات الأمريكية بسبب أن تكاليف تلك المشاريع سيتم تغطيتها باستخدام أموال الضرائب التي دفعها الشعب الأمريكي، ومع ذلك، فإنه يتوقع أن يكون هناك تعاقدات من الباطن وبشكل كبير بين الشركات الأمريكية من جهة والشركات الأخرى في المنطقة ومنها السعودية من جهة أخرى.
وامتداداً للتساؤل الخاص بالصعوبات المستقبلية مالياً، كان هناك قضية اساسية متعلقة بالديون، حيث يعلق السفير على ذلك بقوله ان مستوى الديون السعودية ليست خارج نطاق التحكم ولا يفترض أن يوجد أي سبب للاعتقاد بذلك. وما يدعم هذا القول التوقعات التي تشير إلى امكانية ارتفاع العائدات النفطية خلال هذا العام، بالاضافة إلى أن هذه الديون محلية ولا تتضمن ديوناً أجنبية، ثم يضيف قائلاً أنه لا يزال هناك بعض الجهات الاقتصادية حول العالم التي تؤكد أن الحكومة السعودية ليس بمقدروها في الوقت الحاضر زيادة مستويات تلك الديون، ولهذا السبب فقد رحبت العديد من الدوائر الاقتصادية بالخطوات التي اتخذتها الحكومة السعودية والتصريحات المؤكدة على أن عوائد برامج التخصيص ستوجه إلى تخفيض مستويات الديون.
وعن امكانية تسعير النفط والغاز الطبيعي بعملة اليورو، وربط دول الخليج عملاتها باليورو، يقول السفير أن الأسواق الدولية هي التي تحدد العملة الأنسب، ولا يرى أن مسألة الخيار بين الدولار واليورو من القضايا ذات التأثير الملحوظ اعتقاداً منه أن العامل الأهم في هذه القضية هو التكلفة الحقيقية للطاقة كنسبة من تكاليف انتاج السلع والخدمات الأخرى.
أما فيما يتعلق بمستقبل الوزن النسبي لعملة اليورو عند تحديد سعر حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي، يقول السفير الأمريكي أن تلك مسألة يحددها مجلس المحافظين في الصندوق، كما أنه من الصعوبة معرفة تأثير مثل تلك القضايا الفنية على اقتصاديات المنطقة. وهو يؤكد بذلك على أن العنصر الأهم في هذه المرحلة بالنسبة لاقتصاديات منطقة الخليج هو التوصل إلى حلول تخص بعض المعوقات التي تحد من وجود المناخ الاستثماري الملائم، كالأنظمة التجارية ونظم حل المنازعات المالية والتخصيص وأنظمة العمل والعمال والتخلص من أدوات التفضيل التجاري المبنية على التمييز الوطني.
وبالنسبة لمستقبل اقتصاديات المنطقة التي لا تزال تعتمد على العوائد النفطية بشكل اساسي، يقول السفير أن تلك الاقتصاديات تملك امكانيات وقدرات قوية متمثلة في تملكها لموارد طبيعية واسعة واستثمارات ضخمة في الموارد البشرية وموقع استراتيجي في خارطة التبادل التجاري العالمي.
وسوف يؤدي عامل التخلص من النظام العراقي السابق الى تحسين صورة الوضع الأمني في المنطقة مما من شأنه ان يساهم في رفع مستويات معدل النمو الاقتصادي، وفي الوقت نفسه هناك فرص حقيقية لاستفادة اقتصاديات المنطقة من انخفاض حدة التوتر في الشأن الفلسطيني - الاسرائيلي. كما يضيف قائلاً إن السنوات العشر الماضية قد أثبتت محدودية قدرات دول الخليج على زيادة العوائد النفطية، ولذا فان الاحتمال الأكبر يشير إلى أن مستقبل الأداء الاقتصادي في تلك الدول سيعتمد على قوة ضغوط رؤوس الأموال الوطنية على تحرير الاقتصاديات المحلية. وأخيراً يؤكد على أن الهدف الرئيسي يجب أن يرتكز على تطبيق السياسات التي من شأنها جذب مئات المليارات من الدولارات كرؤوس أموال خليجية مستثمرة بالخارج.
وعن التساؤل المتعلق بالسعر العادل للنفط من وجهة النظر الأمريكية وما إذا كان هناك أثار سلبية للأسعار المتدنية، يذكر السفير الأمريكي ان الاهتمام الرئيسي للحكومة الأمريكية يتمحور حول تحقيق معدلات نمو اقتصادي مستقر حول العالم. وفي ظل وجود بيئة دولية مستقرة، فإن أسعار النفط تلعب دوراً أساسياً في تخصيص الموارد الاستثمارية. وعلى هذا الأساس، فإن مصلحة كل من المنتجين والمستهلكين تتطلب تفادي موجات الارتفاع والانخفاض غير الطبيعية. فعلى سبيل المثال، حالة عدم الاستقرار السياسي التي تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط في سنة معينة، ستؤدي في الأخير الى حالة كساد عالمي مما من شأنه أن يخفض من مستويات الطلب على النفط وزيادة المعروض في آن واحد وبالتالي انخفاض الأسعار في السنة التالية. وفي الأخير، يضيف السفير أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتقد بشكل عام، أن استقرار اسواق النفط أهم من مسألة تحديد سقف سعر معين.
أما بخصوص أن يكون دعم الدولار الأمريكي امام اليورو الأوربي أحد أهداف الحكومة الأمريكية، يقول أن الدولار يتحرك بحرية مقابل العملات الأخرى ومنها اليورو، والحكومة الأمريكية لا تستهدف قيمة معينة للدولار أمام العملات الأخرى. وعن مسألة ظهور عملة دولية موحدة، فهو لا يعتقد امكانية تحقيق ذلك في القريب العاجل بالاضافة إلى أنها ستحد من امكانيات السياسات النقدية كأداة من أدوات الادارة الاقتصادية. وستستمر كل دولة في استخدام سياساتها النقدية بشكل انفرادي حتى يحين الوقت الذي تكون فيه جميع اقتصاديات العالم على نفس مستوى الدورة الاقتصادية. وفيما يتعلق بمنظمة الأوبك، يؤكد على أن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لديها نوايا تستهدف السيطرة على المنظمة لأنها ببساطة ليست عضواً فيها. وفي الأخير يركز على أن قضية اقتصاديات الدول الخليجية تحتاج بشكل أساسي الى تطوير القطاع الخاص من أجل تحقيق معدلات نمو اقتصادي حقيقية.
وبهذا نكون انهينا الجولة الأولى من تحليل المواقف الأمريكية من اقتصاديات المنطقة والتي يعتقد أن تكون متغيرة بحسب النظرة الاستراتيجية لمختلف المسؤولين الأمريكيين. ولهذا ستتوالى الجولات اللاحقة لتبرز المدخلات المتوقعة من كل من وزير التجارة الأمريكي دونالد ايفانز ووزير الخزانة الأمريكي جون سنو ورئيس مجلس الاقتصاد الوطني في البيت الأبيض ستيفن فريدمان ورئيس اللجنة الاقتصادية المشتركة في مجلس الشيوخ الأمريكي روبيرت بينيت ونائب رئيس اللجنة في مجلس النواب الأمريكي جيم ساكسون، وبما أننا نتعامل مع متغيرات تتأثر بشكل مباشر أو غير مباشر بمتغيرات أخرى، فإن ثبات المواقف ليس من المسلمات التي تخضع لها مثل هذه التحقيقات.
(*) جامعة الملك سعود
|