أشاع اكتشافات المقابر الجماعية في العراق، وخروج فئات عديدة من الشعب العراقي على شاشات الفضاء، وهي تحكي قصص الانتقام وأساليب التصفية الجسدية، مشاعر الحزن والألم عند رجل الشارع على الحال البائسة، التي وصل إليها الإنسان العربي، ورفعت تلك الاكتشافات ترمومتر الندم والحسرة إلى أعلى درجاته، فما فعله النظام السابق من جرائم في حق شعبه، جدير بإعادة النظر نحو ما يحدث في العراق، وجدير بدراسة ذهنية الاستبداد العربية وتشريحها ومواجهتها ببشاعة الحقيقة المؤلمة وبسهام النقد الذاتي المباشر، وتلك الاكتشافات تؤثر بلا جدال في حركة مقاومة العدوان، وفي مشروعية التشكيك في مصداقية نوايا الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق، فقد هاجم الكثير من المفكرين العرب والجماعات السياسية والدينية القرار الظالم واللاشرعي، والذي حرك آلاف القطع العسكرية في اتجاه الخليج ضد الإرادة العالمية، لتشتد المقاومة الجماهيرية والحكومية ضد الهجوم اللا شرعي على العراق، ويخرج الناس إلى الساحات لمظاهرة العدوان،.. ولم تصدر تلك الآراء المناهضة للحرب من منطلقات خاطئة ، بل كانت موقفاً أملته الأصول الشرعية والأخلاق الإنسانية والمصالح الوطنية،.. لكن الاكتشافات المتتابعة عن شدة هول جرائم النظام السياسي قد تقلب معايير الأخلاق تجاه الحرب، وتحول عدوان «بوش» إلى عمل بطولي، أنقذ به شعب العراق من مقابر جماعية جديدة، ومن ظلم وقهر سياسي، ميزانه «البارانويا» السياسية، وآلته الاستبداد والبطش والطغيان،وعاقبته القبر الجماعي أو التفجير الدموي لأجساد الضحايا.
والأبطال في التاريخ يتوجون أحياناً بمحض الصدفة، يصنعون أحداثاً ، قد تكون دوافعها الظاهرة سيئة، ولكن النتائج غير المتوقعة، قد تمنحهم النجومية المطلقة، وإن لم يأت الغازي من أجل غرض نبيل، وبوش وجيوشه جاءوا في ثوب المستعمر الذي يبحث عن «الكحل» الأسود في أرض السواد تحت مظلة محاربة الارهاب العربي، وبعد مساندة وتمكين لحكم الفرد المستبد في العراق من قبل المؤسسة الأمريكية الديموقراطية في العقود الماضية..، لكن نتيجة حفريات آثار الاستبداد «كحلت» عيون بوش ببطولة لا يستحقها حسب وجهة نظري، ونال بسببها درجة كحيلان، وهي التي توشح بوسامها والده عام 1991، «يا بوش ما اسمك بوش.. اسمك كحيلان»، وقد قيل دوماً، إن التاريخ لا يرحم، وبالفعل فقد فضح اكتشاف المقابر الجماعية الكثير من عبثية الدفاع عن الشيطان، فالغازي أضحى بطلاً..، والضحية صار مديناً لبوش الابن، وممتناً بالشكر لكحل عينيه.
والاستبداد تقليد عربي، والمقلد يجعل ما يلتزم به من قول الغير من حق أو باطل قلادة في عنق من قلده، وقد دأبنا على ترديد وسماع عبارات سلبية مثل: «العاجز من لا يستبد» في أدبيات الثقافة العربية في العصر الحديث، وذلك لحث الحاكم على الاستبداد بمن تراه رمزاً للخطر والتآمر على حكمه وعلى الوطن، وهو ما يعني أن المثقف العربي في مختلف صوره، كحاكم ديموقراطي «شعبي» اشتراكي، أو أديب بعثي عروبي جماهيري، أو كمفكر سياسي ليبرالي، أو حتى واعظ ديني لا يزال يؤمن بتعويذة قلادة الاستبداد العربية كمنهج لتحقيق المدينة المثالية أو الراشدة في الحكم السياسي، ولا تزال تربطهم بالمرجعية العربية التقليدية في الحكم تلك الرغبة في الضرب بعشوائية بيد من حديد، على الرغم من أن النخب المثقفة تتصل فكرياً بالمرجعية الأوروبية الحداثية، وكان يجب أن تنطلق من مبادئها كالديموقراطية والتعددية والعدالة والمساواة والقضاء المستقل.
ويجدر بالذكر أن نظرية «المستبد العادل» في الحكم هي أطروحة بعض النخب السياسية التي ترتبط بالتراث العربي الإسلامي، فالمتابع لأطروحاتهم السياسية في الحكم، يجد أنها تتراوح بين الدعوة لإحياء نموذج المستبد العادل، وبين مقاومة واقع الغلبة والقوة، مع العلم أن المفكر العربي محمد عابد الجابري في مقاله «الديموقراطية والإسلام» حاول أن يجد مخرجاً كعادته لتقليد الاستبداد العربي، فهو يرى أن كلمة «الاستبداد» لم يكن لها في العقلية العربية القديمة ذلك المضمون السلبي الذي لها اليوم، فقد كان «الاستبداد» يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه، وخصوصاً عندما يقرن ب «العدل». فالعدل يفقد مضمونه مع العجز عن تطبيقه. أما الاستبداد بدون عدل فكان له اسم آخر في المرجعية العربية وهو «الطغيان».
ويذهب الجابري إلى احالة جذور فكرة «المستبد العادل» النموذج للحكم الصالح في المرجعية العربية الإسلامية المحضة إلى المرجعية الفارسية، ففي كتابه الأخير «العقل الأخلاقي العربي» تحدث مطولاً عن أهمية هذه المرجعية في تكريس نموذج «المستبد العادل» من خلال الأدبيات المترجمة والموضوعة حول حزم «أردشير» الذي استطاع ان يلم شمل الأمة الإيرانية بالتحالف مع رجال الدين، مما مكنه من تأسيس الدولة الساسانية على مبدأين: الدين والسلطان، الدين كأساس الملك به تكون التعبئة وجمع الشمل ووحدة الهدف، والحاكم كحارس للدين، بمعنى الحفاظ عليه كأساس للحكم أي حراسته من أن يستعمله المعارضون الثائرون على الحاكم، فالثورة على الحاكم باسم الدين تفرق الناس إلى فرق وشيع، فيتمزق الدين بتمزق السلطان، وهو خطاب سياسي غير مباشر، غرضه حصر الاجتهاد الديني السياسي في شخصية الحاكم، فسلطات الحكم، والقضاء والتشريع تتحد في شخصية الحاكم السياسية والدينية، ولكن بالتأكيد يظل بعبع التمرد قريباً من حماه، إذا لم ينتج عن ذلك الاتحاد منهج أو دستور يمثل الحاكم ويحدد دوره كحامٍ لوحدة الوطن، ولكي يتحقق الاستقرار، عليه أن يسمح بآليات قابلة للتطور، ومواكبة لما يستجد من فنون في علوم السياسة والاقتصاد والإدارة.والوحدة الدينية والسياسية في شخصية المستبد العادل، لها شبيه في الغرب، وكانت الحال المناسب لتحصين «الدولة» من غزوات الثوار الجدد، ففي المملكة المتحدة مثلاً، تعتبر الكنيسة من الناحية القانونية «كنيسة دولة» وتسمى «كنيسة انكلترا» وترأسها الملكة، ويعتبر قانون السمو الاكليركي جزءاً لا يتجزأ من القانون الانكليزي، بل إن مجلس اللوردات يضم عشرين أسقفاً يمثلون الكنيسة الانجليكانية تسميهم الملكة بنفسها بوصفها «حامية الإيمان»، ولم يمنع ذلك أن تصبح بريطانيا أكبر معاقل الحرية والديموقراطية في العالم.
باختصار، اجتهد الجابري في اعادة نموذج «المستبد العادل» إلى موقعه الفارسي، بعد أن انحدر إلى الثقافة العربية الإسلامية..، بينما ظل نموذج الطغيان متأصلاً بجذوره العربية، ومحمياً بتبريرات المثقف العربي وتفسيرات الواعظ الديني، وليس لنا إلا أن نأمل بظهور واقع جديد، يلفظه للأبد ويقذف به إلى الجحيم، وبدون حق العودة، فقد سئمنا والله واقع الاستبداد والطغيان ومقابره الجماعية وأحكامه التعسفية وانحيازه المقيت، أليس هو الواقع الذي منح درجة كحيلان «للبوشوية» ابناً عن أب...؟، وربما يأتي اليوم الذي تدخل فيه درجات الشرف «البوشوية» في تركيبة السلم الاجتماعي، وتحل درجة حرية «بوشا» الأمريكية محل درجة استبداد «باشا» التركية، فيقال مثلاً كاظم بوشا، وهاشم بوشا.. وذلك تقديراً لمواقفهم غير المسبوقة ضد الاستبداد والطغيان في الشرق العربي.
|