لقد اندهش العالم عندما سقطت بغداد سقوطاً سهلاً ويسيراً لم يكن في الحسبان، وكان مرد هذه الدهشة هو المقاومة التي أبداها العراقيون في البدء، حتى ان مدينة صغيرة مثل أم قصر لم تقع في أيادي القوات الأنجلو-أمريكية فعلاً إلا بعد مضي حوالي أسبوعين.
وكانت كل الدلائل العسكرية تقول: إن بغداد عصية على طلابها، فقد حشد النظام البائد فيها صفوة الجيش الجمهوري الخاص، وفرقاً من فدائيي صدام، وبعض المليشيات غير النظامية من المجاهدين العرب وغيرهم. وقد أوحت هذه التركيبة المعقدة والمتشابكة بأن حرب بغداد سيطول أمدها، ولن تكون لقمة سائغة للجيوش الغازية.
علاوة على ذلك، كان من المتوقع أن تشب حرب مدن حامية الوطيس في بغداد، وهكذا فإن القوة الجوية التي كانت الجيوش الغازية تعتمد عليها كل الاعتماد سيستهان من شأنها، فتجد نفسها وجهاً لوجه مع القوات العراقية، ولهذا فإنها كانت تكر على حوافي المدن العراقية، وتفر من أوساطها حتى استقر لها الأمر في النهاية.
لا تزال أسرار ليلة سقوط بغداد ذلك السقوط الدرامي مخبأة في رحم الأيام المقبلة، وقد تخرج إلى الوجود يوماً ما... وتمحو معالم الدهشة التي لا تزال بادية على تعابير وجوهنا..
لكن لم يكن مستغرباً - بأي حال من الأحوال - سقوط بغداد، فلم يكن العالم بأسره يعتقد أن جيش العراق المنهك بعد سنين طويلة من الحصار، والمتقطع الإمداد، سيدحر جيشاً عرمرماً تأتيه مدده من كل صوب، وفي كل حين، ولاسيما في مواجهة مفتوحة.
ولكن كان الأمل بأن تستمر هذه الحرب لفترة طويلة قد تنهك العدو، وتلحق به أضراراً جسيمة قد تهبط من عزيمته على الحرب والاحتلال.
على العموم، لقد صار ما صار، وخاب أمل العالم العربي الذي كان يأمل بإطالة هذه الحرب. لكن من هو المسؤول عن هذه الخيبة وعن السقوط في هوة الإحباط بعد الانجراف في الأحلام؟ ألم تكن الهزيمة العراقية مقدرة مسبقاً بالتفوق الأمريكي على كل الأصعدة؟ ألم تكن الحرب منذ البدء يتوقع لها نجاحاً سريعاً، حتى ان بعض المسؤولين الأمريكيين قدروا لها بضعة أيام أو حتى ساعات، وقد كان هذا التقدير مقبولاً، ومبنياً على ضوء ما حدث في حرب الخليج الثانية التي لم يطل رحاها إلا ساعات معدودة.
لم يحتر بعض الكتاب في الإجابة على هذه التساؤلات، ولكنهم جزافاً أشاروا بأصابع الاتهام إلى الإعلام العربي ولاسيما الفضائي منه، فرأوا بأن الإعلام العربي لم ينقل الحقيقة - كما ينبغي - للعالم العربي، واتهموه ظلماً بأنه لم يقم بتصوير الهوة التي كانت تفصل النظام عن الشعب، وفشل عندما لم يتنبأ لنا ما سيحدث في بغداد وما بعدها!! بل إنه - كما قالوا - أمعن في جريمة تضليل الرأي العربي عندما أعطى انطباعاً بأن شعب العراق كان يقاوم الاحتلال بكل ما أُعطي من قوة، وأنه ملتف حول قيادته في هذا الوقت العصيب حيث وابل القذائف الثقيلة تسقط على رأس الشعب العراقي من دون انقطاع.. وعندما أتى الأمر إلى بغداد التي كثر الحديث عن حصانتها ومتانتها تهاوى كل شيء، وسقطت كل التوقعات والآمال، وانهارت كل القيم.. ولم نعد نرى إلا أقدام العدو تطأ أرض بغداد العظيمة، وتماثيل صدام تسقط على أيادي المحتل تارة، وعلى أيادي الشعب العراقي تارة أخرى، يدفعهم إلى ذلك ضغينة وحقد خلفهما النظام المستبد..
ورغم ذلك اتهم الإعلام العربي بأنه كان منشغلاً بالتعاطف مع العراق على أن ينقل الواقع، وبالتجاوب مع التيار الشعبي العربي الذي كان يراقب الأحداث بشغف، ويود أن يرى الجيوش الأمريكية تنهزم شر هزيمة، وكان يريد أن يرى صورة رومانسية عن تلاحم الشعب مع حاكمه ضد الغازي المعتدي، من دون أن يدرك إدراكاً تاماً ما عانى منه هذا الشعب، وذاق ما ذاق من جلادي النظام البعثي الصدامي.
وأعتقد أن في هذا النقد على الإعلام العربي شيئاً من التحامل والجور، ففي رأيي أن الإعلام العربي كان أشجع من الإعلام الغربي في نقل الصورة الحقيقية للحرب «على الأقل مهنياً»، ولكن كانت أحداث هذه الحرب غير واضحة لما تضمنته من حرب نفسية من كلا الجانبين المتصارعين، وكانت بواطنها أكثر من ظواهرها «فلا تزال أعظم أسرارها - سقوط بغداد الدرامي - مدفونة في ظهر الغيب»، ولا يمكن أن نلوم الإعلام العربي لغموض هذه الحرب، ومن حق الإعلام العربي في خضم هذا الغموض أن يقف إلى جانب التيار الوطني العربي والشعبي، كما قرر الإعلام الأمريكي والبريطاني أن يقف إلى جانب رغبة شعوبه، وحكومته..
لا أدري لماذا هذه الأصوات الناقدة لم تصب شواظ غضبها على الإعلام الغربي الذي أخفى - إلى حد بعيد - مآسي هذه الحرب من صور قتل المدنيين والعزل التي تقشعر منها الأبدان التي بشأنها هوجم موقع «الجزيرة نت»، ولم يكترث الإعلام الغربي أيضاً في أن يبين دوافع هذه الحرب الاقتصادية وشرعيتها إلا فيما ندر، متعاطفاً مع حكوماته التي إن لم يكن يمثلها فهو - من دون شك - يسير على خطاها. فعلى سبيل المثال، كانت جميع القنوات الأمريكية البريطانية تسمي هذه الحرب الباغية: «الحرب في العراق»، لا «الحرب على العراق».
لقد طبل الإعلام الغربي للدعاية الأمريكية منذ البدء عندما ادعى أن جنوب العراق قد وقع تحت سيطرة الجيوش الغازية، وأذاع خبر الاضطراب الشعبي المزعوم في البصرة في أوائل أيام الحرب حتى من دون أن يكون ثمة أي مراسل غربي ليتحقق من هذا الخبر الذي سرعان ما كذبته القنوات العربية، وهرع في إعلان أن البصرة وقعت بالكامل تحت سيطرة القوات البريطانية، رغم أن الحقيقة هي أن القوات البريطانية لم تسيطر عليها بالكامل إلا لاحقاً، لقد بالغ الإعلام الغربي في عرض جبروت القوة العسكرية للقوات الغازية لأغراض سياسية ودعائية.
بينما كان الإعلام في الغرب ولاسيما في أمريكا وبريطانيا يجادل في الجدوى المادية لهذه الحرب، كان الإعلام العربي يجادل في غاياتها الأخلاقية، ومغزاها السياسي على العالم العربي وأثره خصوصا على الشعوب العربية، وهنا ينبغي أن يشاد بالإعلام العربي على هذا الوقف، وأن يشجع ليقطع باعاً أبعد في هذا المجال لا أن يتهم من دون معرفة للواقع العربي والإعلامي.
فدور الإعلام يكمن في زيادة الوعي الوطني والشعبي، وفي إلقاء الضوء على الأحداث التي تنمي من هذين الشعورين ولاسيما في الحروب والمحن. أما من يعتقد أن دور الإعلام هو في ترسيخ الموضوعية والواقعية السياسية فهو واهم، فالإعلام الغربي - وهو النموذج المحتذى - لم يلعب هذا الدور قط، بل كان دوماً رديفاً لحكومته بصورة أو بأخرى، وها هو الإعلام الأمريكي أكبر دليل على هذا التحيز طوال تاريخه، سواء في حربه على أفغانستان، أو على العراق، ومن قبلهما على فتنام، أم أن هؤلاء الناقدين يريدون لنا أن نكون ملكيين أكثر من الملكيين أنفسهم!!! والعجيب في الأمر أننا نحن الذين لم نعرف الموضوعية إلا قليلاً في حياتنا وفكرنا فقط الآن نطالب بها في هذا الوضع الوطني حيث الموضوعية لا تعني غير قتل روح معنويات الشعب العربي، وتحميس المعتدين بقرع الطبول وتقديم الدعاية السياسية مجاناً للأمريكان بحجة «الواقعية الإعلامية»، كما فعل - للأسف - البعض، ومن المؤسف أيضاً أن هذه الأصوات الناقمة لم تجد لفظاً أنسب لتطلقه على هذا الانتماء الإعلامي الشعبي سوى لفظ «التضليل».
ولست أدعي الكمال للإعلام العربي إزاء تغطية الحرب أو غيرها، فلا يزال ثمة «نقوصا» في حاجة إلى الاكتمال، ولكن من الظلم أن نرى في تجاوب الإعلام العربي مع مشاعر وهموم الشعب العربي ومحاكاة لآماله «نقوصاً» ومن الخطل في الحكم أن نلتمس منه أن يغترب عن المطلب العربي الشعبي، ويعقد أواصر مع «نقل الواقع» و«الأمانة الصحفية»..
ما ينبغي لنا أن نفعله الآن بعد انقشاع الضباب هو تقييم إعلامنا العربي على محك علمي ومهني، وعلى قدرته لإخراج هذا الإحباط من الوعي العربي الذي جل ما يقال عنه في هذا المقام أنه تأتى من ظروف الحرب على العراق وأقدارها التي كتبتها أياد لا تزال خفية.
|