تقطعت آخر خيوط كانت تربطه باليقظة، وشعر بنفسه تنزلق إلى عالم النوم الجميل، والنوم نهاراً ليس كالنوم ليلاً، ففي الليل يرهقه الأرق ويتمدد السأم على طول ساعات الليل، يتململ، يتقلب، كل الأفكار السوداء تزوره إلى ان تخور قواه فيداهمه النوم فجأة لا يشعر به إلا عندما يستيقظ منه على صوت الساعة المنبهة، لكن النوم نهاراً بعد يوم عمل شاق طويل يواتيه سريعاً، بالرغم من ضجة التلفزيون في الغرفة المجاورة، ويتسلل النوم إلى حواسه فيشعر وكأنه ينزلق رويداً رويداً داخلاً في موج بحر دافئ إلى ان يغوص تماماً في أعماقه وأسراره.
عندما تقطعت آخر خيوط كانت تربطه باليقظة، شعر بنشوة الحلم، فعقله الواعي المتوتر القلق دوماً لا يكاد يغيب حتى أثناء النوم، ويظل جزء منه يعمل يحس ويدرك، فتختلط اليقظة بالحلم في مزيج غريب ممتع وغامض، بدأت أصوات التلفزيون تتلاشى وتغيب عن مسمعه، وبدأ يترامى إلى سمعه الحالم أصوات باعة ينادون على بضائعهم يحرضون الناس على الشراء، وأصوات أبواق سيارات، شارع مزدحم في أصيل يوم غائم، سار متمهلاً على رصيف طويل يلقي بنظرات فاترة على المارة يراهم بعينه الحالمة يعبرون الشارع، يلجون الدكاكين، يتحاورون، عالم حي لا ينقصه شيء، هو من صنع الحلم، عالم آمن ساحر، بعيداً عن اليقظة، حيث لا خوف ولا خطر ولا موت.
وهو بين الوعي والحلم تراءت له بناية المستشفى عملاقة عريضة كما هي في اليقظة، وأمامها تقف سيارات الاسعاف، بوركت من حلم، عليه ان يقصد إليها، سيلقي عليها تحية عن كثب سيحادثها دون وجل، الدكتورة تيسير التي عالجت معظم أضراسه، ولكن ليحذر كل الحذر من هذه السيارات المسرعة لئلاً تصدمه إحداها فيستيقظ من حلمه الجميل الواعد.
مشى يحث خطاه الحالمة وبقية من عقله الواعي تتركه يسير حذراً فهو في المنطقة الوسطى بين الحلم والوعي، الحلم الواعي هو الخيار الوحيد ليظفر بالسعادة كما يريد، فلا وعي خالص يرده إلى يقظته ويخرجه من جنة الحلم، ولا استغراق ساذج في الحلم يحيله كالحقيقة فيحمله فيما يحمله قوانين اليقظة وقيودها فلا يعيش في حلمه إلا ما كان يعيش في يقظته.
سار بخطاه الحالمة إلى حيث تنتظره دكتورته، ان لا يزداد إلا اقترابا، لكن سيارة حمراء تشبه سيارة أبي هانئ مدير الشركة وقفت هناك قبالة إحدى البنايات في منتصف الطريق إلى الدكتورة، انه هو بعينه ابو هانئ نزل من سيارته وسرعان ما انتبه المدير إلى وجوده فلقد رآه، ناداه أبو هانئ بصوت قوي وان كان ضاحكاً مستبشراً:
يا علي.. علي.
هل عليه أن يجيب؟ إن بإمكانه ان يتجاهل هذا المدير تماماً، بل يمكنه حتى ان يسخر منه، فلا شيء محظور في عالم الأحلام الآمن، لكن المدير ألح عليه: يا علي..
أهلا يا سعادة المدير صدفة سعيدة.
كان المدير مبتسماً، راح يصافحه بحرارة ثم قال له بنبرة صادقة:
جميل انني رأيتك في هذه المصادفة غير المنتظرة يا علي! أتعلم ان لك عندي بشرى..
غلبه الفرح! ترى ما تكون هذه البشرى؟
وكان المدير لا يزال يشد على يده بحرارة ويهزها بقوة، فداهمته اليقظة وتبدد الحلم.
|