مر أكثر من أسبوع على أحداث مدينة الرياض المرعبة قبل أن أستطيع الإمساك بالقلم ومحاولة المشاركة في فهم وتحليل واستيعاب ما حدث، ومن ثم اقتراح بعض الحلول العملية التي أعتقد أنه قد حان الوقت للأخذ بها وتفعيلها دون تردد ولا تأخير.
ليس المجال هنا للتعبير عن الغضب والدهشة لما حدث لأن هذه بالنسبة لي من المسلمات التي لا تحتاج إلى إثبات، ولا للشجب والاستنكار فقد كفاني مؤونة ذلك المسؤولون والمواطنون الذين عبروا عن مشاعرهم خلال الأيام الماضية.
ولست أكتب هذا لمحاولة فهم ما حدث وتبريره أو ربطه بأي سبب من الأسباب لأنني أعرف حقاً أن الذي حدث يستعصي على الفهم السطحي المباشر أو الربط بعامل واحد كما حاول البعض أن يفسره بالحديث عن مناهج التعليم أو الفقر أو البطالة أو غيرها من العوامل الاجتماعية المختلفة.
ما الذي يجعل شاباً مسلماً عربياً سعودياً نشأ في هذا البلد المسلم الآمن المسالم يتحول إلى أداة مرعبة للقتل والتدمير، فيقتل نفسه التي حرم الله قتلها إلا بالحق أمام بوابة لإسكان مدني مليء بالأبرياء من الأطفال والنساء والرجال، في منظر رهيب لم تستطع تصويره حتى أبشع أفلام الرعب التي بلغت القمة في تخويف الناس وتصوير مشاهد القتال والدمار؟
ما هو الفكر أو المنطق الذي يغذي تلك السلوكيات البشعة ويوجد لها التبريرات؟
ماذا يهدف أولئك الأشخاص إلى تحقيقه من خلال القيام بهذه الأعمال إلى جانب الإرهاب والترويع والإخلال بالأمن وبث الفوضى؟
أسئلة كثيرة تتسابق في الذهن تبحث عن إجابات، والقارئ الكريم يدرك أكثر مني صعوبة الإجابة عليها من خلال مقالة كهذه أو حتى من خلال عشرات المقالات والآراء والتوقعات. الأمر، أيها السادة، جد خطير، والمسألة تحتاج إلى وقفة جادة حازمة عاجلة وعلى كافة المستويات حفاظاً على أمن هذا البلد الغالي على الجميع، وحفاظاً على مكانته المتميزة عالمياً وإسلامياً وعربياً، وحفاظاً على مكتسبات التنمية التي تحققت خلال العقود الماضية، وحفاظاً على الوحدة الوطنية التي قل أن تجد لها مثيلاً في العالم، وحفاظاً على أرواح الأبرياء وأموالهم وممتلكاتهم..
لقد كانت المملكة العربية السعودية مضرب المثل في الاستقرار والرخاء والأمن على مستوى العالم كله، وإن كانت - لله الحمد والمنة - لا تزال كذلك، إلا أن تلك الصورة الناصعة البياض قد شابها شيء من التشويه الذي يحتاج إلى معالجة فعالة لتعود الأمور كما كانت، بعون الله، ثم بتكاتف الجهود من الجميع.
ينبغي أن لا يتكرر ما حدث، ومسؤولية تحقيق ذلك تقع على كاهل كل مواطن ومقيم على أرض هذا البلد الطاهر بدءاً من القيادة وانتهاء بالمواطن العادي الذي ينعم بالأمن والرخاء، إنها مسؤولية متعددة الجوانب ومترابطة الأطراف، لها أبعاد دينية وسياسية وأمنية واجتماعية وثقافية وإعلامية واقتصادية في نسيج يشير إلى أن الظاهرة التي نتحدث عنها ليست يسيرة الفهم ولا يسيرة العلاج.
هل يمكن أن نفسر ما حدث على أنه نتاج لمناهج التعليم في بلادنا؟ وهل يمكن الربط بينه وبين البطالة أو الفقر أو الفراغ، وكيف يمكن لعاقل أن يقول إن خطبة الجمعة قد تكون السبب لأن نصل إلى ما وصلنا إليه؟ إن هذا كله يدخل ضمن إطار تبسيط الأمور والبحث عن حلول سطحية عاجلة دون الانتباه إلى البعد التاريخي لهذه الظاهرة ابتداء مما يسمى بالجهاد الأفغاني ضد السوفييت وما تفرع عنه من تنظيمات وظروف وملابسات، والبعد الجغرافي المترامي الأطراف ابتداء كذلك من أفغانستان ومروراً بالشيشان والبوسنة والعديد من الدول التي لا يتسع المجال لذكرها، وهناك بعد عقدي قائم على أفكار غريبة عن تراثنا ومجتمعنا تقوم على مبادئ التكفير لكل مخالف في الرأي واستهداف غير المسلمين والخروج على ولاة الأمر وجعل ذلك كله تحت مسمى الجهاد في سبيل الله.
إنني لا أهدف هنا إلى البحث عن إجابات أو محاولة ترجيح رأي أو الربط بعامل، فلازلت أعتقد أن المسألة أكبر من ذلك بكثير، وإنما أدعو من خلال هذه المقالة إلى تأسيس مشروع وطني لمكافحة الإرهاب تتبناه الدولة، أيدها الله، ويسهم في دعمه أبناء هذا الوطن من المحسنين ورجال الأعمال والبنوك والشركات والمواطنين، ويعمل على تنفيذ برامجه نخبة من العلماء والدعاء والباحثين، مشروع وطني جاد لا يبحث عن أنصاف الحلول ولا يستعجل النتائج ولا يخضع لقيود الروتين وضعف الامكانات، مشروع وطني يسهم في إنقاذ الوطن الغالي من انعدام الأمن وترويع الآمنين والعبث بالوحدة الوطنية المقدسة، مشروع وطني يقوم على أسس علمية سليمة ويستثمر جهود الجميع ويفيد من تجارب الآخرين، مشروع وطني يضع الحلول الناجعة لكل المشكلات التي أدت إلى ما نعيشه اليوم من خلل اجتماعي يحتاج إلى المزيد من الفهم والعلاج.
هذا المشروع ينبغي أن يكون على هيئة مؤسسة وطنية ذات شخصية اعتبارية مستقلة تجمع لها التبرعات من الجميع في حملة وطنية شاملة، ويوضع لها تنظيم إداري ومالي متطور ومرن، وتعمل على تحقيق العديد من الأهداف، والتي من أبرزها:
1- إعداد بحوث ودراسات علمية متعمقة لتحليل وفهم ما حدث، ووضع الحلول العملية للتعامل معه.
2- إعداد برامج دعوية وثقافية وإعلامية خاصة بالتوعية والتوجيه ونشرها عبر وسائل الإعلام والتركيز في ذلك على فئة الشباب.
3- تنظيم المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش الخاصة بالقضايا الفكرية والاجتماعية والثقافية التي استجدت في السنوات الماضية.
4- دراسة الظواهر الفكرية والاجتماعية المستجدة في المجتمع، واقتراح ما يناسب للحد من آثارها السلبية.
5- تنسيق ودعم الجهود التي تقوم بها الجهات المعنية فيما يتعلق بمكافحة الفقر والبطالة والفراغ.
6- دراسة الآثار المترتبة على انتشار وسائل الاتصال والترفيه في المجتمع وخاصة القنوات الفضائية والإنترنت، وفتح قنوات جديدة للتواصل والحوار.
7- دراسة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي نشأ فيها من عرف بالانتماء للتنظيمات الإرهابية ومقارنة تلك الظروف لمعرفة أوجه التشابه والاختلاف.
8- رصد الأفكار التي يروة لها دعاة العنف والإرهاب وتحليلها والرد عليها بعملية ومنطقية.
9- الاستماع إلى الشباب ومعرفة ما ينتشر بينهم من ظواهر وأفكار وسلوكيات ومنحهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم ضمن إطارات تمنح قدراً من الحرية وتقدير الرأي الآخر.
10- مساعدة الأسر التي تعاني من مشكلات مع بعض أفرادها من الشباب خاصة الذين سافروا إلى خارج المملكة تحت مسمى الجهاد في سبيل الله، وإعادة تأهيل أولئك وفقاً لأساليب علمية مدروسة.
11- دفع تعويضات للمتضررين من الأعمال الإرهابية مادياً أو نفسياً.
وغيرها من الاهداف والوسائل التي يمكن دراستها وتحديدها من خلال فريق علمي من المتخصصين يؤلف لهذا الهدف.
وما أوردته هنا ليس سوى محاولة متواضعة لاقتراح عملي أعتقد أنه هو السبيل الأمثل للتعامل مع هذا الوضع المعقد، وهو ليس حلاً سحرياً سريع المفعول، وإنما تنظيم مؤسس يوحد الجهود، ويتعامل مع المشكلة بمنظور علمي، ويبتعد عن المعالجة العاطفية والمرتجلة.
ما حدث هو نتاج لعقليات مريضة تعرضت لسنوات من التغريب والتضليل، ولا يدعي أحد أن هذه الظاهرة سوف تزول سريعاً من خلال حلول أمنية حازمة، فالقضية في حقيقة الأمر ليست أمنية فقط وإنما لها أبعاد عقدية وسياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، ولن يكون هناك حل مفيد ما لم تؤخذ كل هذه الأبعاد في الحسبان.
إن منظر الجثث المتفحمة عند أبواب المجمعات السكنية يدل، بدون شك، على أننا أمام خطر كبير يحتاج منا جميعاً إلى وقفة صادقة حازمة قبل أن يتسع الخرق على الراقع، لا سمح الله. ولن يجدي الشجب والاستنكار شيئاً ما لم تتبعه إجراءات عملية ملموسة تعيد النظر في الكثير من الأمور التي غفلنا عن معالجتها، والكثير من السلوكيات التي انشغلنا عن تقييمها.
لا بد أن يتحمل كل منا مسؤوليته ويقوم بها خير قيام، ولا عذر لمقصر أو متقاعس، فنحن في سفينة واحدة تمر عبر بحر متلاطم من المشكلات الدولية والمتغيرات المتلاحقة والتحديات المستجدة.
ومزية هذا البلد المسلم الآمن كانت في أمنه ورخائه واستقراره وستبقى، بإذن الله، كذلك. وسيبقى هذا الوطن عزيزاً بالإسلام، قوياً بحكومته الرشيدة الحريصة على أمنه واستقراره، شامخاً بمواطنيه الذين أعطاهم الكثير وجاء دورهم ليعطوه دون منّ ولا تردد..، والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(*) أستاذ علم الاجتماع الجنائي
المدير العام لمركز البحوث والدراسات الإسلامية بالرياض
|