البعد الأول
لقد أثار في نفسي سجن الأسئلة أن أرى في منابرنا القليلة وبالتحديد الصحفية والإلكترونية ذلك الكم الكبير من الهجوم الكاسح والجارح على كل «ما يخال» أن له علاقة بتفجيرات الرياض من فكر وممارسات. ولا يعني هذا التقليل من فداحة الحدث ولكنه يثير التساؤل في طبيعة علاقتنا بقضايانا من ناحية وبدولتنا من ناحية أخرى. فعلى مستوى علاقتنا بقضايانا نظل على ما يبدو في منأى عنها ونتخذ منها موقف السكوت فيها وعنها دون أن نصدق ضمائرنا إلى أن تسمح الحكومة بطرحها أو تبادر إلى تبنيها. وعندما يشعل الضوء الأخضر فإن تناول ما كان مصموتاً عنه يتم مع الأسف بأسلوب الاستعداء وتصفية الحسابات أو تبرئة الذمة وكأن التناول يتم لتبرئة النفس وغسل اليدين لا للمناقشة الموضوعية للوضع. أما على مستوى علاقتنا بالدولة فإننا على ما يبدو أيضاً نترك الأمر الذي يفترض أنه شورى بين الحاكم والمحكوم للدولة وحدها دون أن نشعر بمسؤوليتنا في مقاسمتها التبعات والمسؤولية. ولا أخفي القارئ ما شعرت به من قلق لا يقل عن قلق التفجيرات من تلك الأساليب «الضارية» التي جرت بها بعض الأقلام والأفواه الرسمية وغير الرسمية ذات المرجعية الفقهية أو المدنية، وما قد تغذيه بقصد أو بغير قصد من خلق تعصب وتعصب مضاد قد لا يكون في صالح حاجتنا الماسة اليوم للتحاور والتشاور ولبناء تقاليد حضارية للحوار وللتعبير عن الاختلاف والمغايرة أو خلافات الرأي بغير الابعاد والتهميش. لا شك أن هناك حنقاً اجتماعياً «مسكوتاً عنه أيضاً» بسبب مصادرة الرأي التي طالما تمت تحت مسوح تعصبية لطرح دون آخر إلا أن الحوار الموضوعي هو البديل وليس الاستمرار في توسيع دائرة عدم التسامح بأثر رجعي أو من أطراف هي نفسها كانت ضحية «التعصب» و«المصادرة» في سبل رزقها أو في مواقعها العلمية واعتبارها الوطني.
ولا أريد أن يفهم من كلامي أنه دعوة للعودة إلى الأسلوب القديم في مداواة الاختلافات بالتستر عليها أو بإعطاء طرف مشروعية وامتيازات ليست لآخرين ولكنه على العكس من ذلك رغبة في ترشيد الحوار بالتسامح وبالحق المشترك في التعبير والعمل دون الوقوع تحت طائلة الخوف من تهم التخوين والتكفير والتشكيك في الولاء أو الوقوع فريسة للوسائل الكيدية والاستعدائية والتكتلية للإقصاء التي لم تخل من ابتزازاتها حتى بعض الدوائر الثقافية والمؤسسات التعليمية والأكاديمية.
إن المرحلة التاريخية التي يمر بها مجتمعنا ومنطقتنا مرحلة حرجة وحاسمة ولا يمكن أن نواجهها ونتحمل تحدياتها بدون مساحة من التسامح تفعْل جميع القوى الاجتماعية في خلق بديلنا في الإصلاح السياسي والاجتماعي المستمد من هوية حضارتنا العربية الإسلامية لئلا نعطي قوى الهيمنة العالمية ذريعة التدخل في شؤوننا لعجزنا عن إدارة اختلافاتنا بأساليب سلمية وقانونية وعلى أسس تعددية لا نلغي فيه بعضنا.
إن الشباب الذي صارت تلوكه الأفواه بحق وبغير حق هم أبناؤنا وإخواننا وهم نتاج واقعنا الاجتماعي بفرصه التعليمية الضيقة، بانتماءاته القبلية التعصبية التي يعلي أو يحط من شأنها لاعتبارات عنصرية ليس إلا، وبسوق عمله المكتظة بالعاطلين عن العمل منهم وبأيدي العمالة الخارجية الرخيصة، انهم ذلك الشباب الذي لم يجد طوال أيام أزمة الحرب الأمريكية إلى نهايتها المهينة متنفساً كبقية شباب العالم للتعبير عن غضبه غير رسائل الجوال غير المخفضة، انهم الذين لا يجدون اعتبارا اجتماعياً إلا بتبني طروحات متطرفة تجعلهم في موقع «توخيفي» للمجتمع. وعلى هذا فإن كان هناك خلاف على أساليب التفكير والعمل معهم فإن الاختلاف يحل بالحوار لا بتبني نفس الأساليب العصابية. هذا مرة أخرى ليس دفاعاً عن كارثة التفجير ومصابنا الديني والإنساني والأمني من جرائها لكنها مراجعة لمسؤوليتنا الجماعية تجاهها ومحاولة لمواجهتها بغير العنف الذي كالرمال المتحركة لا يجر إلا إلى المزيد من الغرق في مستنقع العنف.
إن كلمة الملك فهد بن عبدالعزيز أمام مجلس الشورى تشكل نواة لبرنامج إصلاحي حيوي ولكن نجاح هذا البرنامج لا يكون إلا بتحويله إلى خطة عمل تحدد آلياتها وكيفياتها ومدة إنجازها في المستقبل المنظور والبعيد. وفي هذا فإن المؤسسات الاجتماعية الموجودة أو المؤسسات الأهلية التي تستحدث للعمل بها وللإضافة عليها من واقع الحاجات الاجتماعية والمشاركة بالرأي والممارسة لا تستطيع أن تفعل ذلك ما لم يكن هناك تمثيل لجميع القوى الاجتماعية ولكل أطيافها السياسية وفئاتها الاجتماعية، وما لم يكن هناك مساحة مشروعة من التسامح تتيح بأن تعمل هذه القوى على أرض مشتركة بما يعزز الوحدة الوطنية بنظام اجتماعي وسياسي يستوعب المتغيرات ويحولها إلى عامل استقلال.
البعد الثاني
بعد أسبوع من سهاد المتابعة لردات الفعل الخارجية والداخلية على أحداث الحادي عشر من ربيع الأول بالتاريخ الهجري وجدت أن من واجبي الذي حاولت أن أؤجل القيام به لريثما تهدأ العاصفة، طرح بعض الأسئلة علها تجرؤ على مساءلة الواقع أو على الأقل علها تخفف سيل الإجابات الجاهزة والتحليلات السياسية المسبقة والحلول «الأمنية» الباترة التي صارت تمطرنا بها وباقتراحاتها معظم الصحف والمنتديات الإلكترونية في موضوع «تفجيرات الرياض».
وفي ظني والله أعلم أن تعقيد الموقف الشديد وخطورته القريبة والبعيدة لا تجعلنا نطمئن إلى طرحه باللونين الأبيض والأسود فقط كالصور القديمة ونلغي أو نغض البصر عن تشابكاته وتخالط ألوانه في مستويات متعددة يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي والاقتصادي بالقيمي والسائد الثقافي بالمقصى.
إن هذا التعقيد يدعونا بإلحاح للتسلح تجاه الحدث وخلفيته الاجتماعية بقليل من الأسئلة التي قد تساعدنا على عقلنة ردات الفعل وابتكار سبل المعالجة الجذرية له ليس فقط تحت سطوة الحدث نفسه ولكن في ضوء معرفة الواقع الذي أفرزه ومسؤوليتنا «الوطنية» رجالاً ونساء عن الحالة التي أدت إلى وقوعه ومن ثم تحديد مسؤوليتنا في مواجهته بالضمانات التي لا تكتفي بتحويله إلى حالة من الكمون لا تلبث أن تعاود الظهور كلما سنحت الفرصة لذلك. فالواقع الذي ولد من رحمه الحدث ليس وليد الساعة وحسب بل هو نتيجة تراكمية لعدد من العوامل والمتغيرات التي علينا أن نسأل ما هي وكيف تراكمت ولماذا أخذت هذا الاتجاه دون غيره في التعبير عن نفسها. وهو واقع لا تقع تبعاته على الحكومة وحدها ولا يلام فيه الجانب «الديني» وحده أو يرمى الأمر برمته على عاتق الجانب «الأمني» دون مساءلة الجانب المدني بنخبه وفئاته الشعبية وتشكيلاته الأهلية عن دوره فيما نحن فيه. فسؤال الواقع الذي أفرز الحدث ليس سؤالاً دينياً محضاً وان كان يسهل على بعض المحللين إحالته إلى هذه المرجعية وحدها خصوصا في حضرة الهيمنة الأمريكية التي تريد أن تلصقه بهذا الجانب ليسهل عليها توسيع دائرة ما تسميه بحربها على الإرهاب. كما أنه ليس سؤالاً أمنياً محضاً وان كان حصره في هذا الجانب قد يريح الميالين إلى الحلول الاجتثاثية. وهو ليس سؤالاً رسمياً بواحاً وإن كان في التعامل معه على هذا الأساس ما قد يدعم الحلول الاحتوائية. وإذا كان هناك تجارب محلية وعربية بل و«عالمية» قد حاول كل منها البحث عن الحل «الأمني» كما في مصر والجزائر أو عن الحل «الأمني/ والاحتوائي» كما هو الحال في بلادنا «السعودية» نفسها بعد حادث الحرم الشريف وفي أعقابه، وكذلك ما ذهبت إليه أمريكا ولا تزال ماضية فيه على غير هدى من العسكرة الخارجية والتضييق الداخلي دون أن يحقق مثل هذه الحلول نجاحات حقيقية في التعامل مع الموقف، فإن ذلك لا بد يقنعنا بطرح السؤال على أنه سؤال يتعلق بطبيعة النظام الاجتماعي الداخلي لتلك المجتمعات التي عانت وتعاني من أحداث العنف وبطبيعة العلاقة التي تربطها بذلك الغرب وأمريكا منه على وجه التحديد الذي غالباً ما تكون العلاقة بها أو شبهة العلاقة بها مثارا لمثل هذه الحوادث العنيفة. وهذا يقودنا إلى بعد آخر للحدث.
البعد الثالث
لقد كتب البعض بما يشبه السخرية كتعليق على تفجيرات الرياض «فتش عن أمريكا» أو «الحق على أمريكا» إلا أنني أحمل دور أمريكا عما حدث في الرياض مثلما حدث بنيويورك في سبتمبر 2001م أو على مسارح أخرى في شتى أنحاء العالم محمل الجد لا محمل الهزل. فالإدارة الأمريكية اليوم بقيادة مجموعة من اليمين المسيحي المتطرف هي التي تستقبل قاتل الأطفال شارون على أنه رجل السلام، وهي التي تحمي ظهر «إسرائيل» على حساب حقوق الشعب الفلسطيني لإقامة دولة على جزء صغير من أرضه التي يرتع بها الاستعمار الصهيوني الاستيطاني وتطوقها المستعمرات. أمريكا هي التي اتهمت طياراً مسلما بتفجير رحلته لأنه قال توكلت على الله. وهي التي تحتل العراق اليوم بعد أن قصفت أطفاله بـ23 ألف قنبلة وتركت الحياة المدنية فيه نهباً للأمراض ولتفجر الألغام ولغائلة الجوع وعدم الأمن. وهي التي تعتبر المقاومة المشروعة لاستعادة حق سليب كما بجنوب لبنان إرهاباً وهي التي ترفض اليوم في أن تكف عن عسكرة المنطقة ما لم تغير ميزان القوى فيها لصالح إسرائيل بعد أن تؤمن لنفسها فيها منابع النفط وهي التي تقصي ثقافة الآخر وتعمل على محوها بنموذجها الغربي للعولمة. فإذا كانت أمريكا تفعل كل ذلك وما هو أكثر بطبيعة الحال فلماذا لا تكون «حالة الهوان» و«الإذلال» التي تمارسها أمريكا في حق الشعوب الأخرى عاملاً جوهرياً في «حالة العداء والعنف» التي تعممها بسياستها غير العادلة على العالم. هذا مع الأسف دون أن تعلم تلك «الفئات» التي تمارس عنفاً مضاداً للعنف الأمريكي أنها بممارستها لترويع المدنيين في أوطانها كما حدث في تفجيرات الرياض قد تعطي بعملها اللامشروع ذريعة ليس الوقت مواتياً لها للعدوان على أوطانها.
ليس معنى هذا أن ندير خدنا الأيسر لمن صفعنا على خدنا الأيمن و لكن معناه أن ندخل لعبة صراع وحوار الحضارات معاً بأدوات القرن الواحد والعشرين علماً وعملاً.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|