حكى لي بعضهم طرفة، جرت تفاصيلها في مجلس يضم مجموعة من كبار السن «الشيبان» وأخذوا يحللون الأحداث ويقرءون الواقع حسبما تمليه نظرتهم الثاقبة وتجربتهم الصادقة في هذه الحياة، ومما تناولوه في ذلك المجلس «الحديث عن الزر النووي وضحايا هيروشيما ونجازاكي واليورانيوم المنضب» وأن العالم يمكن أن يحترق لو ضغط أحد ما على ذلك الزر، فعلق ذلك الشايب المجرب «ليتهم بس يرفعون الأزارير عن البزارين» ظناً منه أن الزر النووي يشبه إلى حد كبير ما يثبت على الجدران ويتحكم بالأجهزة الكهربائية ويكمن خطره إذا كان في متناول الأطفال.. ولكن الأطفال العابثين بالزر يختلفون عن الأطفال الذين تعود أن يراهم الشايب وعيونهم مملوءة بالبراءة والعبث إذ لا أحد يستطيع أن يمحو آثار طباشيرهم التي سرقوها من مدارسهم هذا الصباح ليرسموا في الهزع الأخير من الليل قوانين لعبة جديدة لم تكن معهودة حتي في جمهورية دزني للأطفال، يتحايلون بلؤم لا مثيل له على كل شيء ليربحوا كل شيء ولا تتسخ ثيابهم ولا يصابون بخدوش ويقفزون على رجل واحدة من مربع مستطيل إلى آخر مربعات الطباشير المستحيلة وليست المستطيلة متجاهلين أن الحريات لا ترسم بالطباشير وأن الأوطان لا يمكن أن تتشكل بزاويا حادة ومنفرجة يرسمها فرجار طارئ من خشب وأن الشعوب تجاوزت الزحف على حدود ما هو مرسوم لها والإقامة بوطن في خريطة على هامش الطريق، ترسمه اليمنى بطلاء الأظافر وتمسحه اليسرى بممحاة تجري باضطراب في كل الاتجاهات وتلتهم الألوان والجمهور بشكل مخيف.وربما الشبه الوحيد بين أولئك وهؤلاء الأطفال هو حب اللعب بأعواد الثقاب حتى وإن أدت تلك النار إلى حريق نووي هائل يلتهمه ويلتهم البيت ومن فيه كما هو متوقع في ظل هذه الأنظمة التي تتسارع في سباق التسلح الذري والبيولوجي وأسلحة الدمار الشامل دون مراعاة لمصلحة الكائنات أو معاهدة أو اتفاقية يسعى الشرفاء والنبلاء إلى تعميمها على الجميع حفاظاً على الإنسان والحيوان والنبات.
لقد صدق ذلك المجرب ولم يكن مخطئا في توجيه تلك النصيحة وبخاصة في عالم أطلق على جيوش الحروب اسم وزارات الدفاع وهي تحترف الهجوم وتطوف الأرض باسم السلام ونشر الديمقراطية التي تصدرها البيوت الملونة، ولا ألوم ذلك المجرب وهو يعيش في منطقة جاثمة على برميل بارود قابل للانفجار في ظل امتلاك إسرائيل جعبة نووية تستطيع أن تهدد بها اثنتين وعشرين عاصمة عربية ويذكي هذا الخوف التجاهل الشديد لمبادرات السلام العربية والعالمية من قبل أطراف النزاع، والتركيز على بث المزيد من الأسرار لترويع العرب في أرضهم على يد جنرالات لا تفهم من آداب الفروسية التي عرفناها في تاريخنا الشرقي شيئاً يذكر، وكان شيمون بيريز قد اعترف في الستينات أن للسلاح النووي الإسرائيلي بعدين أحدهم يتعلق بالسلاح نفسه والآخر يتعلق ببث إشاعات مدروسة بعناية تهدف إلى إثارة الهلع في نفوس العرب الذين سيتم ابتزازهم زرافات ووحدانا نتيجة الخلل في موازين القوى، وهذا يجب ألا يخفى على دول المواجهة، التي لا تملك قوة حربية تساعد على الانتصار في الحروب المتوقعة وبخاصة إذا عرفنا أن السلاح منهم وقطع الغيار منهم والصيانة منهم ولا زلت أذكر أن بلداً عربياً من دول المواجهة أراد تحريك قواته لمواجهة مشكلة على حدوده مع دولة أخرى فتقطعت السبل بالجيش ومعداته ولم يصل سليماً معافى منها إلى الحدود إلا الربع في صورة لا تقبل الشك والتشكيك بعدم قدرتنا على الحرب بكل أسف.ودعونا نرجع قليلاً إلى الوراء عندما صرح الرئيس المخلوع صدام بأنه سيحرق تل أبيب بالكيماوي المزدوج لم يكن موفقاً في ذلك التهديد، لأنه يعرف أن ذلك مستحيل وأن كلامه للاستهلاك الشعبي الذي يفكر بعاطفته بعيداً عن عقله وقدراته، فجاءه وفد الكونجرس في اليوم التالي لمناقشة التهديد وجره غباؤه إلى اجتياح الكويت بدل تل أبيب ودفع الثمن غالياً ومضت فترة والعالم يحاصره ولم يستفد من تلك التجربة فأنشاء جيش القدس وسلط وسائل الإعلام على ذلك المشروع الذي يعرف وتعرف الأمة أنه خيال ودفع الثمن مرة أخرى بخلعه وهدم تماثيله ومطاردته ليحاكم عسكرياً.
أيها السادة، إن الواقع مر للغاية وتجب مواجهته وإن كان مؤلماً حرصاً على ما تبقى من مدخرات الأمة ونؤمن بضرورة ألا نخسر أيضاً المزيد من العواصم والجيوش ونقتصر على الدبلوماسية والشرعية الأممية في إثبات حقنا المشروع في قضايا الأمة والبعد عن الاستفزازية والتهديد بالسلاح والمواجهة لأننا لسنا قادرين حقيقة في هذه الفترة، لأن الأفراد والأنظمة العربية لا يمكن أن تثبت أمام الجيوش المنظمة بجنرالاتها وحاملاتها.. والأعجب من ذلك أننا نرى تصرفاً عربياً على مستويات من المسؤولين وطلبة العلم والإعلاميين يسعى بالأمة إلى المواجهة وإعطاء الصهاينة فرصا ثمينة لزيادة الالتصاق بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية ولو كان هناك عقل رشيد لما احرقنا أوراقنا كلها في المراهنة على أوراق خاسرة وأنظمة استبدادية فاشلة، ولو استفدنا من العلاقات القوية لبعض الدول العربية بالولايات المتحدة الأمريكية لزيادة الفرص معها وإجراء مواثيق ومعاهدات انطلاقاً من الإسلام الحنيف الذي يحترم مثل هذه المواثيق مع اليهود والنصارى والكفار بعامة ما دامت مصلحة المسلمين تقتضي مثل هذا والتفكير من خلال أفق أوسع لا يسمح بالنظرة الأحادية أو العقل الضيق أن يتصرف في مستقبل الأمة السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وينقل المعارك إلى تراب المسلمين. وبكل أسف نرى أن هناك من يطالب بمقاطعة الولايات المتحدة الأمريكية بسبب وسائل الإعلام التي بدأ كتابها يوجهون الشتم والسب والتلويح بالقوة فأحرجوا أوطانهم ومواطنيهم وللأسف، ولو كانت الحكمة حاضرة لاستفادت تلك الدول من الحرب العالمية على الإرهاب في إجراءات تخدم مصلحتها ومصلحة مواطنيها في التعامل مع القضايا، فتقضي على الفكر الإرهابي المشوه للإسلام بطريقتها من جهة وتحصل على تأييد عالمي من جهة أخرى، فالله وحده يعلم أننا متألمون لما حصل في أفغانستان وفلسطين ولبنان والعراق وما قد يحصل في سوريا وإيران لأننا بحاجة إلى استقرار يدرك أن الخطر القادم أعم وأمَرّ في ظل بوليصة تأمين تحمي السلاح النووي الإسرائيلي من التفتيش والمساءلة، ويجب ألا نغفل عن النموذجين الألماني والفرنسي المعارضين للولايات المتحدة الأمريكية، وهما دولتان يملكان ما لا تملكه الدول العربية لو كانت مجتمعة، وكذلك التزام الصين العظمى الصمت. ولا زلنا نسمع في وسائل الإعلام بمعاقبة باريس لأنها تجرأت على شق العالم أمام الإرادة الأمريكية عندما هددت باستخدام الفيتو ضد أي مشروع أمريكي يريد المجلس الموافقة على منح حق توجيه ضربة عسكرية للعراق فقاطع الشعب البضائع الفرنسية وغير أسماء وجبات الطعام الفرنسية المستعملة في أمريكا بل إنهم اقترحوا إعادة تمثال الحرية لأنه هدية من الشعب الفرنسي إلى الشعب الأمريكي، وخسرت ألمانيا أيضاً على يد مستشارها جيرهارد شرودر أيضاً كثيراً بسبب موقفها بما في ذلك الجنود الأمريكيون الذين قيل أنهم سوف ينشرون في قواعد دول أخرى، ولم يعد لألمانيا أن تلعب دور الوسيط عبر الأطلسي بين فرنسا والولايات المتحدة ولا يمكن لها أيضاً أن تحصل على مقعد دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لأن الولايات المتحدة ستسحب دعمها لهذا الطلب الألماني الذي سيواجه أيضاً ارتفاع معدلات البطالة والنمو. ولا تقل خسارة روسيا أيضاً عن الدولتين الخارجتين عن الإرادة الأمريكية حتى أطلقت وسائل الإعلام لقب «العصابة الثلاثية» حاملاً إيحاءات مخيفة. ولكن الانتصار الذي تحقق للولايات المتحدة عن جعل الزعماء الثلاثة يعلنون في مؤتمرهم الذي عقد في بطرسبورغ استرضاء الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا فرحبوا بتغيير النظام العراقي وأكد شرودر قائلاً: «لا أريد أن أتحدث عن الماضي وينبغي علينا أن نفكر بالكيفية التي يمكن بها تحويل الانتصار العسكري إلى عون للمنطقة برمتها».
ولم يدرك الخارجون السر الذي جعل الحفلة تنتهي بهذه الفوضى على إيقاع الخيانة والخوذات والبساطيل والمجنزرات دون انتشاء وتصفيق يليق بحضور المندوب السامي الصحراء بقميصه الصيفي والأزرق للعراق الذي بدأ يلعق الأصابع جوعاً ويكسر الآنية الفخارية في المتحف بحثاً عن الماء ويحرق الوثائق والمخطوطات والتاريخ المجيد في القادسية الثانية المزعومة ومعارك تحرير الفاو المزيفة على يد جيش لم يستفد من قراءة الواقع حسب ما تتطلبه المرحلة فأعاد الظاهرة العربية في آخر لحظة عندما ترمي بنادقها وترتدي جيوشها المهزومة ثياب نسائها وتهرب من الأبواب الخلفية.
(*)الإمارات العربية المتحدة
|