المجتمع السعودي مجتمع على فطرته التي فطره الله عليها يتسم بالطيبة، تسوده المحبة، تظلله الأخوة والتواصل والتراحم، جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وسيستمر بحول الله وقدرته وقوته طاهراً نقياً، متسامحاً وسطياً في تدينه، ملتزماً في عبادته، كتاب الله العزيز وسنة نبيه المطهرة هما الأساس الذي قام عليه هذا الوطن الغالي حماه الله من كيد الكائدين وعبث الحاقدين.
واليوم يتعرض- كغيره من المجتمعات- إلى العديد من المثيرات والمؤثرات، بعضها له طابع فكري وأخرى قيمي، وثالثة أخلاقي، ورابعة وخامسة.. ولكون هذا المجتمع مازال على فطرته، سواء في معتقده، أو أنماط حياته وعلاقاته فإن كل متغير عما ألفه، لابد وأن يستهويه ويغريه، فيجد نفسه منقاداً بدافع الرغبة في الاستطلاع إلى ذلك المثير، ولا سيما إذا كان الثابت الذي نشأ عليه ظل على ثباته دون تعزيز، أو تحصين، أو متابعة، ولا شك أنه جد في حياة المجتمع السعودي الكثير من المستجدات والتغيرات التي تستوجب التعامل معها، تقبلاً أو تكيفاً، وأحياناً رفضاً، ولكن كل هذا يحتاج إلى جهد وسعي حثيث من مصادر التلقي، المؤتمنة على تكوين عقل الأمة وفكرها، إذ يجب على هذه المصادر أن تتحرك، وتتفاعل، بخطى مدروسة، دؤوبة متجددة.المتغيرات تتحرك بسرعة ومع حركتها، تتسلح بمقومات مغرية جذابة، استغلت الفراغ من ناحية، وتلك المستجدات التي لم تواجه بفعل يجلو غموضها، ويوطنها في مكانها الصحيح من الثبات الذي تخبره من الناحية الأخرى.إن ذاك الشاب الذي يلف نفسه بحزام ناري، ويشحن سيارته بالذخيرة المدمرة ثم يقدم عن طواعية وإصرار بقتل نفسه وغيره، من المستجدات التي انغرست في وجدان قلة من الشباب، على الرغم من أنه في الثابت لدى هذا الشاب أن هذا الفعل محرم، لكن لم يأبه لذلك الثابت في عقله ووجدانه، وإنما استجاب لذلك المستجد على الرغم من فظاعته وبشاعته وهنا يتبادر إلى الأذهان سؤال محير يصاحبه الحزن والألم، والتحسر والأسى، لماذا هذا المصير المؤسف؟ وهذا الحدث المروع؟ وهذا الفكر المنحرف؟
والإجابة عليه ليست بالأمر الهين السهل، الذي أرى معه وجوب إجراء دراسات وبحوث يشترك فيها علماء الشرع، والنفس، لأن هذا الفعل تجاوز كل الثوابت والقيم التي يؤمن بها المجتمع السعودي، وتربى عليها، وكانت سمة غالبة عليه إلى زمن قريب.
إن المنصفين والعقلاء يدركون تماماً أن الجريمة البشعة والتفجيرات الآثمة التي حدثت في مدينة الرياض مساء يوم الاثنين الموافق 11/3/1424هـ ليست من الإسلام إطلاقاً، وليست من قيم المسلم وأخلاقه، الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم:«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»، إنها ليست من ثوابت الإسلام الذي جاءت مقاصد الشريعة فيه حافظة للضرورات الخمس: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل.
إن ميزان الإسلام هو ميزان المصالح والمفاسد، يرجح المصلحة ويدرأ المفسدة، يقول ابن القيم«الشريعة مصلحة كلها وعدل كلها وحكمة كلها ورحمة كلها، فما خرج عن المصلحة الى المفسدة وعن العدل الى الجور وعن الحكمة الى العبث، وعن الرحمة الى ضدها فليس من الشريعة»، والإسلام يرسخ المحبة بين الناس ففي الحديث«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ويذكر الحافظ ابن رجب في تفسيره لهذا الحديث: إن الأخوة الواردة في هذا الحديث تشمل الأخوة في الإنسانية.
والإسلام يقرر العدل بين الأفراد والأمم {إنَّ پلَّهّ يّأًمٍرٍ بٌالًعّدًلٌ $ّالإحًسّانٌ} ويحض على التفاعل والتواصل مع الغير«أفش السلام على من عرفت ومن لم تعرف» وشرع الحوار وسيلة للمناقشة حول قضايا الاختلاف حتى من المخالف في الدين قال تعالى:{وّلا تٍجّادٌلٍوا أّهًلّ الكٌتّابٌ إلاَّ بٌالَّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ إلاَّ الّذٌينّ ظّلّمٍوا مٌنًهٍمً}.
نعم للحوار الذي تمس الحاجة إليه الآن، إنه نهج نبيل قويم يجب أن تفتح له النوافذ كلها، وتفتح له القلوب تقبلاً، والعقول تفهماً، إنه الوسيلة الأنجع لجلاء الغموض، ودحض الأوهام والأباطيل، وترسيخ الحق والحقائق، وتثبيتهما، الإسلام لم يدع للحوار فقط بل نهى عن المراء فيه، أي الجدال الذي يقصد به الظهور على الخصم بالباطل، ونهى عن سوء الظن بالناس، والدخول في عقولهم واستنطاق المخبوء من منطلق أوهام تجاه الآخر، انطلاقاً مما يقال، دون تثبت أو تحر قال تعالى {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا اجًتّنٌبٍوا كّثٌيرْا مٌَنّ الظَّنٌَ إنَّ بّعًضّ الظَّنٌَ إثًمِ }، ونهى الإسلام عن الغيبة والنميمة والتجسس { وّلا تّجّسَّسٍوا وّلا يّغًتّب بَّعًضٍكٍم بّعًضْا}، ونهى الإسلام عن دخول بيوت الناس بغير إذن بما فيهم المخالف في الدين، فقد روى البيهقي«نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن دخول بيوت أهل الكتاب إلا بإذن وأكل ثمارهم إلا أن يعطوها».. انظروا لعظمة الإسلام مجرد دخول بيوتهم منهي عنه إلا بإذنهم المسبق، بالله عليكم من أجاز لهؤلاء اقتحام بيوت المسلمين وقتلهم، إذا كان الإسلام ينهى عن مجرد الدخول بدون إذن إنه الانحراف والضلال عن هدي الإسلام الذي لم يكتف بهذا بل شرع إقامة العلاقة مع المخالف في الدين على المودة والبر ما لم يعتد علينا قال تعالى{لا يّنًهّاكٍمٍ اللّهٍ عّنٌ الّذٌينّ لّمً يٍقّاتٌلٍوكٍمً فٌي الدٌينٌ وّلّمً يٍخًرٌجٍوكٍم مٌَن دٌيّارٌكٍمً أّن تّبّرٍَوهٍمً وّتٍقًسٌطٍوا إلّيًهٌمً إنَّ اللهّ يٍحٌبٍَ المٍقًسٌطٌينّ}، ودعا الإسلام إلى رأب الصدع، وإصلاح ذات البين«ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة» تأملوا فساد ذات البين بين أفراد المجتمع هي الحالقة، إنه الخطر الداهم والطامة الكبرى، متى ما فسدت العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد فإن هذا إنذار بسحقه، وشتاته، وتمزقه، ومن ثم ضياعه.
كما نهى الإسلام عن ترويع الناس الآمنين ورفع السلاح عليهم وأخذ متاعم «من حمل علينا السلاح فليس منا» وأدان كل أسباب التطرف أو وصف إنسان يظهر الإسلام بأنه فاسق أو منافق أو مبتدع أو كافر ونحو ذلك إلا بتوفر شروط هذا الوصف وانتفاء موانعه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: «.. فإننا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا تعارض له»، ونهى عن التكفير«تكفير المسلم كقتله» «لا يرمي رجل رجلاً بالفسق والكفر إلا ردت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك»، والتشدد في الدين «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم» ونهى عن الغلو في الدين«إياكم والغلو في الدين إنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين».
إن شرع الله وشريعته مطهرة نقية بريئة من كل ما يدنسها، إنها واضحة في مقاصدها، عادلة في أحكامها، سامية في أهدافها، متوازنة في رؤيتها، وسطية في شرائعها وتكاليفها، ممكنة التعامل، عامة سهلة ميسرة لكل مريد صادق، وسوف تظل كذلك صافية، عادلة، متوازنة، واضحة، لن يشوبها بغي باغ، أو سلوك منحرف من بعض المنتسبين لها، ممن انحرف عن جادة الصواب.
ستظل راعية لمصالح العباد، حافظة ضرورات الفرد والمجتمع، منظمة للعلاقة بين الناس بعضهم ببعض، المنتسب منهم للدين الواحد، وللمخالف في دينه، وبينهم وبين حكامهم وعلمائهم، وهذا ما نشهده في هذه البلاد الطاهرة، في أنظمة: الحكم، والقضاء، والسياسة، وأسلوب الحياة، ولهذا من أين ظهر هؤلاء المغالون، المتجاوزون حدود الشرع والعقل؟ بمن تأثروا؟
|