أربعة من الشباب الطموح كانوا يجلسون أمام الكعبة في المسجد الحرام، تجمعهم صداقةٌ كانوا يتفيَّأون ظلالها، شبابٌ لهم طموحاتهم الكبيرة، لم يكونوا مشغولين بتوافه الأمور، ولم يكونوا معزولين عن الناس، ولا عاطلين من أعمال الدنيا، ولكنهم كانوا على صلة وثيقة بالمسجد، إذا رُفع الأذان كانوا من أوائل الداخلين إلى المسجد من المصلِّين.
شبابٌ يشار إليهم بالبنان، لأنهم كانوا على قدرٍ متميِّز من العلم والثقافة والوعي، وعلى درايةٍ بأمور الحياة.
هم في تلك اللحظة جلوسٌ أمام الكعبة، تشرق وجوههم بنور الطاعة وتصفو أذهانُهم صفاءَ الهمَّة واليقين..
أربعة من الشباب هم «عبدالله بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعروة بن الزبير، وعبدالملك بن مروان»، في تلك اللحظة بعد أداء صلاتهم وأذكارهم، قالوا لبعضهم: ليذكرْ كلُّ واحدٍ منا أمنيَّته في الحياة لعلَّها تكون ساعة استجابة في تلك البقعة الطاهرة المباركة، فيحقق الله ما يتمنَّون.
قال عبدالله: أمنيتي أن أكون ملكاً على الحجاز والعراق، وقال مصعب: أتمنى أن أكون ملكاً على العراقيين، وقال عبدالملك: أتمنى أن أكون ملكاً على الدنيا، انطلقت أمانيُّ الثلاثة سريعةً قويَّة ، إنها امنيَّات عِظَام لشبابٍ طموح، والتفت الثلاثة إلى عروة الذي لم ينطق بأمنيّته بعد، فرأوه يصعِّد بصره في بناء الكعبة، ثم يرفع عينيه إلى السماء، قالوا له: لم تذكر أمنيَّتك يا عروة، قال وقد أضاءت ابتسامته وجهه الوسيم: أما أنا فأمنيَّتي أنْ يدخلني ربِّي الجنة، وأفوز برضاه عني.
ثم سكت الجميع، كلُّهم كانوا يعيشون في تلك اللحظة مشاعر عجيبة، كانوا يحسُّون بأنَّ تلك الأماني قد لاقت أبواباً مفتوحة، وكلُّهم كانوا يشعرون بتهافُت الأماني الثلاث أمام الأمنيَّة العظيمة، أمنيَّة دخول الجنة.
وتفرَّق ذلك الجمع الصغير، ودارت الأيام والليالي دورتها التي لا تنقطع إلا حينما يقدِّر الله سبحانه وتعالى، وتبدَّلت الأحوال، وتنوَّعت المواقف، واشتعلت أحداث، وانطفأت أخرى، وتفرَّقت أواصر الأصدقاء الأربعة، وحالت الدنيا بينهم بعد أن كانوا لا يفترقون.
عبدالله بن الزبير أصبح والياً على الحجاز والعراق، وأخوه مصعب أصبح والياً على العراق من قبل أخيه عبدالله، وعبدالملك وصل إلى الخلافة في الشام، ودارت رحى الحرب بين الأصدقاء، وقتل مصعب بن الزبير، ثم قتل عبدالله بن الزبير، فأصبح عبدالملك خليفة، وملكاً على الدنيا في عصره .
ثلاثٌ من الأمنيَّات الأربع تحقَّقت، تلاشت اثنتان منها بموت صاحبيهما، والأمنيَّة الثالثة في طريقها إلى الزَّوال.
وكان صاحب الأمنية الرابعة «عروة» بعيداً عن ساحات الصراع الملتهب، مشغولاً بتجارته وبساتينه، وقبل ذلك بصلاته ودينه.
جلس عبدالملك بن مروان في ساعة تفكير وتأمُّل، فلاحت أمامه صورة أربعةٍ من الشباب يجلسون أمام الكعبة في هدوء واطمئنان وراحة بال، وسمع صدى صوت كلِّ واحدٍ منهم وهو يردِّد أمنيِّته في الحياة، وسمع صدى صوته هو وهو يقول: أتمنَّى أن أكون ملكاً على الدنيا، وأحسَّ برغبةٍ في البكاء، فأطلق لدموعه العنان، لقدتحقَّقت أمنيَّتا صاحبيه، ثم زالتا سريعاً، وها هي ذي أمنيَّته قد تحقَّقت، وسرعان ما ستزول.
ثم تذكَّر عروة بن الزبير، وقال: والله لقد تحققت أمانينا، وكأني بساعتنا تلك كانت ساعة استجابة، وإني لأظن أن عروة بن الزبير قد فاز بها، وارتفع صوته بالبكاء.
عروة بن الزبير..
صاحب الأمنية العظيمة «أن يدخلني ربي الجنَّة»، كان مضرب المثل في خشوعه وصلاته، وحرصه على عدم إضاعة أوقاته فيما لا يفيد، لقد كان صاحب مالٍ وثروة كبيرة، وكان يملك أكثر من حائط «أي بستان»، ومع ذلك فقد كان يسابق الناس إلى المسجد، لأنه رتَّب أوقاته على أوقاتِ الصلاة، وكانت النتيجة حياة مستقرة، وبركةً ومالاً وبنين، وحدائق وبساتين، وبذلاً وعطاءً وصدقةً لا تنقطع عن الفقراء والمساكين.
كان يطعم أهل مكة من ثمرات بساتينه كل عام، وكان رجلاً اجتماعياً منتجاً جاداً نافعاً لنفسه ولأهله وللناس.
وكان ذا صلاة وخشوع وإخبات.
كانت يده مليئة بالدنيا وكان قلبه فارغاً منها ومن حبِّها.
كل أمواله وبساتينه كانت تتلاشى وتغيب عن عينيه وقلبه حينما يرفع يديه بتكبيرة الإحرام، أما إذا سجد، ولامست جبهته المضيئة الأرض، فإنَّه يكون هناك في عالمٍ آخر، عالم الاتصال برب العباد.
هكذا تكون مجالس الهمم العالية، مجالس العقول الراجحة، مجالس الشباب الذين يعيشون في أسرٍ واعيةٍ مستقرة، وفي مجتمع مسلم يرقى بأفراده عن سفاسف الأمور.
إشارة:
أبى المجد إلا أن يكون لعاقلِ
إذا زمجرت في الأرض ريح النوازل
|
|