العنف ظاهرة مركبة يتداخل فيها شبكة من عوامل تتغير وفقاً للمكان والزمان. وتحتاج هذه الظاهرة للتشريح ومن ثم التفكيك من عدة أصعدة: أمنية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية وتربوية.. الخ.
ولعله من نافلة القول ان الأجهزة الأمنية مهما بلغت من القوة والتنظيم والكفاءة فهي وحدها غير كافية لمكافحة الارهاب، فمواجهة العنف مسؤولية الجميع: البيت، المدرسة، الشارع، المسجد، الإعلام.. الخ.
والعنف ربيب التطرف، فمنه يتغذى فكرياً وبه يسوغ أخلاقياً، ويبدأ التطرف في العقل من خلال التربية والتنشئة الاجتماعية كتعسف الأب في قراراته، بالمنزل، واستبداد المدرس برأيه في الفصل مع الأسلوب التلقيني الأعمى والمنهج الضيق الأفق المليء بالأفكار الأحادية النظرة، وبعد العقل ينتقل التطرف إلى سلوك عنيف في التعامل مع المخالفين فكرياً سواء كان هذا السلوك معنوياً كشتمهم وتكفيرهم وتخوينهم أو مادياً كالتعرض للمخالفين بالقوة الجسدية، وقد يتطور هذا السلوك العدائي إلى تنظيم إرهابي يبيح لنفسه ممارسة ما شاء من التعديات على حقوق الآخرين.
والاستبداد يغذي كلاً من التعصب والعنف عبر اقصائه للآخر، ولأن الشباب «وغالبيتهم من الطلبة» بحكم تكوينهم النفسي والفسيولوجي أكثر حساسية تجاه الأزمات ويتسم سلوكهم بالحماس للتصحيح لذا نجدهم من أكثر الفئات المغرر بها للانخراط في العنف في بيئات لا تربي على سعة الأفق وتعدد الآراء وحسن التعامل مع التناقضات.
ومن المنظور الفكري والتربوي، ينبغي ان يتم تفكيك الأسس الفكرية للعنف الحالي، وهي التطرف والانغلاق وتأويل النصوص الدينية بطريقة متعسفة. وفي هذا السياق لابد من مراجعة أداء وطريقة عمل بعض المؤسسات التربوية والدعوية والإعلامية وطريقة ترويجها لخطابها. ويكثر هذه الأيام في بلادنا التطرق لإصلاح المناهج وتطويرها، وفي تقديري ان هذا على الرغم من أهميته الكبيرة، فإنه لوحده قد لا يكفي لتهيئة مناخ تربوي أفضل، بل ينبغي ايضاً مراجعة أداء المعلمين، ذلك ان الكتب المدرسية لا تنطق بل تُنطَّق، فإذا كان بعض المعلمين يصرُّ على إقحام أفكارره وتأويلاته السياسية العنيفة في عقول الطلاب دون محاسبة من المسؤولين أو الأنظمة التعليمية، فإن بوسعه ان يفسر النصوص وفقاً لنظرته المتطرفة، وبإمكانه أيضاً ان يحذف ويضيف ما شاء من المنهج لخدمة أفكاره، وان يشجع الطلاب على طريقة تفكير اقصائية واستئصالية.إضافة لذلك، فإن الأنظمة التربوية والأنشطة المدرسية تحتاج إلى لمن يتابعها ويتأكد من حسن تطبيقها، خاصة في ظروفنا الحالية التي ينبغي ان تكون المتابعة فيها صارمة، فالنشاطات اللاصفية المكملة للمنهج كالتوعية الإسلامية حدد لها النظام طرائق واضحة وصريحة وأهداف رائعة وقيم دينية سامية عظيمة وفقاً للشريعة السمحة، ولكنها تفتقر للمتابعة الحثيثة والميدانية لطريقة تنفيذها، فقد تستغل المحاضرات والزيارات والاجتماعات ودروس التقوية والرحلات الكشفية والمراكز الصيفية لمآرب أخرى غير ما نص عليه النظام الذي يتوخى الفائدة الدينية والدنيوية للطلاب.
وقد ذكر لي أحد التربويين ممن له باع طويل في هذا المجال، انه يحدث أحياناً ان كثيراً من القيم الإسلامية العظيمة التي نص عليها النظام كأداء الشعائر الدينية والتعامل مع الآخرين من بر الوالدين ومعاملة الأصدقاء والخصوم بالحسنى يتم تغييبها مقابل حقن الطلاب بأفكار خلافية أو مشبوهة بطريقة عمياء ودون نقاش.
كما ذكر لي أنه في إحدى دروس الإنشاء كتب طالب موضوعاً عن الجهاد مستوحى من أسلوب تنظيم القاعدة!! وذكر لي تربوي آخر لا يقل خبرة عن سابقه انه تحدث حالات يتم بها توزيع نشرات ومنشورات بها غلو في الدين أو متطرفة سياسياً!
كذلك فإن اختيار وترشيح المعلمين لمهام تربوية يحتاج إلى إعادة نظر ودقة في المتابعة.
فقسم النشاط المدرسي الذي يقوم بترشيح رواد النشاط، قد يرشح رواد لا يعتنون بإبراز وتنمية مواهب الطلبة في الإبداع والابتكار من فكر وشعر وأدب ورسم ومسرح وعلوم وفنون شتى قدر عنايتهم بتوجيه طلبتهم لتيارات وأفكار متطرفة، وقد تكون هذه الأفكار غير متطرفة بل قد تكون نبيلة كالأناشيد الحماسية والمحاضرات المُسيسة، ولكنها في مكان غير مناسب وتأتي على حساب وقت وحصص أخرى مما يشجع الطلاب على الغلو ويخل بالتوازن بين المعارف المختلفة التي حددها النظام المنصوص عليها من قبل الوزارة وفقاً لمبادئ الدين الحنيف. وبالرغم من سمو الأهداف المرسومة من قبل النظام في أقسام الإدارات المدرسية والتوجيه الطلابي التي يتم عن طريقها اختيار المديرين والوكلاء والمرشدين الطلابيين فإن عملية الاختيار تحتاج لمراجعة، إذ حسبما يظهر انها تتم احيانا بطريقة انتقائية متحيزة لجماعات ذات توجهات فكرية معينة على حساب الكفاءة والخبرة والمعايير التي وضعها النظام.وفي الختام، أقول يمكنني تفهم وتقدير اعتراض المسؤولين التربويين على ما جاء في هذه المقالة من ملاحظات، ولكن من حقنا ان نتساءل: ما الذي جعل يافعين أبرياء لم يعرفوا في هذه الدنيا غير البيت والمدرسة ينقلبون فجأة إلى متطرفين يحملون السلاح وينشرون التفجير والدمارر في أصقاع الأرض؟؟
إني أظن ان المدرسة هي المسؤول الأول عن هذه الظاهرة في بلادنا.. والله أعلم.
|