Sunday 18th may,2003 11189العدد الأحد 17 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الشورى.. وخياراتنا الحضارية الشورى.. وخياراتنا الحضارية
د. محمد بن عبدالله بن ابراهيم

قد لا يستدعي مثل هذا المقال من رجل مثلي غير ذي صلة مباشرة بمجلس الشورى في المملكة الحديث عن انجازاته والتطلعات المعقودة عليه، ففي رجال المجلس وقياداته والمتصلين به عن قرب الكفاية في القيام بأمر مثل هذا، ولذا فسأتجه بالحديث عن قضية اخرى ذات صلة، تتعلق بالشورى ذاتها، وبفكرة المجلس من حيث هي باعتبارها خياراً اتجهت اليه المملكة ممثلة في قيادتها - وفقها الله لكل خير - لممارسة نوع من المشاركة العامة في اتخاذ القرار.
ان من بدهيات القول ان هناك اجماعاً على أن الامة تعيش حالة من التخلف عن غيرها من الامم في مجالات حياتها كافة، سياسية واجتماعية وتعليمية وتربوية واقتصادية.. الخ، وان هناك حاجة بل ضرورة الى النهوض بالامة في هذه المجالات كلها، لكن الامة اختلفت وتفرقت فيما بعد ذلك، اختلفت في سبيل الوصول الى تحقيق هذه الغاية، فمن الامة من اتجه الى الشرق مستورداً قيم الفكر البعثي والاشتراكي والشيوعي، ومنها من اتجه الى الغرب يعب من فكره الليبرالي المتحرر من القيم السماوية، والمبادىء الاخلاقية مستلهماً قيمه الديمقراطية والمكيافيلية والرأسمالية لحياته منهجاً وخياراً وحيداً لا يرى انه يمكن النهوض بغيره، وقد تضخمت لدى هؤلاء الصورة الجميلة التي سعت الليبرالية ممثلة في دولها الغربية الى ان تكرسها في ذهنية الكثيرين ممن بهرهم زخرف هذه المدنية وبريقها الخادع، وتقدمها المادي الضارب في الارض، مخفياً وراءه تبعات ثقيلة من التخلف الخلقي، والدمار النفسي، والانحطاط الروحي.
وقد ظل الخيار الاسلامي بعيداً عن ساحة التطبيق لدى الكثير من ابناء ودول العالم الاسلامي، حتى اصبحت المفاهيم الاساسية للدين ومصطلحاته غريبة على السمع، بعيدة عن الممارسة، بل ومحل تبرم واشمئزاز لدى البعض الآخر.
في خضم ذلك، وطيلة عقود مضت بدأت المملكة ترسم خطواتها الوليدة على صفحة التاريخ المعاصر باعتبارها الدولة الوحيدة التي اهتدت الى طريق الاسلام والسنة خياراً وحيداً في شؤون حياتها المختلفة، وتجافت عن خوض التجارب الخاسرة شرقيها وغربيها، واصبحت في ذلك - رغم غربة الخيار الذي ارتضته - متميزة في حياتها الاجتماعية، والتعليمية والتربوية والقضائية..
ثم جاءت فكرة مجلس الشورى متممة لذلك الخيار منسجمة معه، ولم يكن ثمة تلكوء او تيه في اي الصيغ والمسميات يقع عليه الاختيار، فاختيار المصطلح «لم يكن سوى خياراً وحيداً، بعيداً عن المزايدات الاصطلاحية، والمسميات البراقة، اذ ان حقيقة الامر وغايته تنصب في إيصال الرأي الرشيد، والمشورة النافعة، والمساهمة الفاعلة في تسديد الرأي وتصويب القرار.
لقد كان خيار الشورى معبراً عن حقيقة الهدف الذي تقام من اجله المؤسسات التشريعية في العالم، سواء سميت برلماناً او مجلس امة، او مجلساً للشعب، او غير ذلك من مسميات، فالحقيقة ماهي في النهاية الا رأي المجتمعين في هذا المجلس، وتبقى قضية التمثيل النيابي مسألة مرتبطة بظروف الترشيح في كثير من الاحيان، فضلا عما يصاحب عملية الانتخاب والترشيح من تجاوزات وشراء للاصوات، وتلاعب بصناديق الاقتراع في عمليات مكشوفة معروفة، بل ومتفق عليها في بعض الاحيان، لاسيما في عالمنا العربي والإسلامي.
ويبقى كذلك الرأي الاخير والقرار النهائي في كثير من الاحيان هو رأي السلطة السياسية التي تتحكم في المؤسسة التنفيذية والعسكرية، وتمتلك المعلومة التي يصنع في ضوئها القرار بما لديها من مؤسسات استخباراتية ومعلوماتية، ولعل تداعيات الحادي عشر من سبتمبر على الحياة السياسية في امريكا وبريطانيا بالذات قد جلت كثيراً من الحقائق الغائبة عن حقيقة الخيار الديمقراطي، وكشفت حقيقة ربما تجاهلها الكثيرون، وهي ان القرار تصنعه السلطة السياسية بالطريقة التي تتجاوب ومصالحها ورؤيتها اكثر من كونه قراراً يترك للظروف التي تمليها رؤى الجهاز التشريعي، بل ان الديمقراطية ليست - كما يظن - تحمي من التسلط بكل حال، وانما الذي يحمي من التسلط حقيقة هو الخوف من الله، ومراقبته، وهو المعنى الذي جعله الاسلام سياجاً للحقوق والواجبات في المجتمع الاسلامي، والا فما الذي يمنع رئيساً منتخباً، او حتى برلماناً منتخباً من ان يتخذ قراراً تسلطياً؟
وقائع التاريخ القريب والبعيد تؤكد وقوع التسلط في الخيار الديمقراطي، فحكومة الجمعية الفرنسية التي جاءت بعد الثورة الفرنسية بانتخاب شعبي، كانت نموذجاً شرساً في التسلط، بل ان الطاغية الذي تسبب في ابادة ومقتل اكثر من خمسين مليوناً من البشر، وتدمير مصالح ببلاين الريالات، وهو الزعيم الالماني «هتلر» قد جاء بطريقة انتخابية ديمقراطية، والواقع لا ينفي تكرار مثل ذلك، بل ان من ضمن الانظمة المعمول بها في النظام الامريكي ما يسمى ب «الطريق السريع» وهو طريقة تضمن للرئيس حق اتخاذ قرارات دون الرجوع للكونجرس في حالات معينة، وما اتخذته الحكومة الامريكية من قرارات تمس جوهر الحرية الشخصية وحقوق الانسان بعد الحادي عشر من سبتمبر، مثل قرارات الاعتقال بمجرد التهمة او الاشتباه، ومنع وسائل الاعلام الامريكية من نقل ونشر بعض المعلومات والحقائق، ووجود شيء من الرقابة القبلية على تلك الوسائل.
اعود لاقول بأن الامة تبدأ خطواتها الصحيحة باتجاه التقدم والحضارة عندما تدرك ان خياراتها الحضارية يجب ان تكون نتاج ثقافتها، لا ان تستورد ذلك من هنا او هناك، فالحضارة ابداع، وتأصيل، وليست محاكاة وتقليداً، وهكذا كانت بداية مجلس الشورى، واملنا في ان يتكلل بالنجاح الذي يجعل منه نموذجاً يحتذى في الاداء والعطاء، وبداية صالحة لخيار حضاري في حياة امتنا المسلمة في كل مكان من عالمنا الاسلامي الكبير..
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الكريم نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعه باحسان.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved