الكلمة القوية والمباشرة والحازمة التي وجهها سمو الأمير عبدالله بعد جريمة أحداث الرياض، تحملُ الكثير من الابعاد، وتعلن صراحة أن حرباً لا هوادة فيها ولا مجاملات ستشن على هذا الفكر التدميري وأفراده ومروجي ثقافته، وقدجاءت في وقت يطالبُ فيه الجميع بوقفة قوية وحازمة وصارمة وقاصمة تجاه أولئك المرضى النفسيين، الذين ملأ الجهل وفاضهم، والأوبئة الفكرية اذهانهم، فأصبحوا عجائن طيعة لدنة يتمُ عجنها وتشكيلها كما يرغبُ ويطمح إليه أعداء الوطن. وليس غريبا في هذا الزمن الرديء أن يأتي أناس لينتقوا من مفاهيم الشريعة الإسلامية ما يدعمُ ثقافة التحريض على القتل والتخريب والتدمير وإراقة الدماء، ليس في زمن حرب وإنما في دار سلام. فتاريخنا منذ أن ظهر «الخوارج» وهو يضج بمثل هذه الفرق. إنما الغريب أن تمر حادثة الكشف عن خلية حي اشبيليا الإرهابية على بعض الفعاليات الفكرية، وبعض العلماء أو من يسمون كذلك، وأيضاً على بعض خطباء المساجد في يوم «الجمعة» التي أعقبت ليلة الكشف عن الخلية المرعبة، مرور الكرام، وكأن الأمر لا يعنيهم البتة. هنا لابد من التوقف لنضع النقاط على الحروف، فالذي لا يُدين ولا يُجرم مثل هذه الاعمال مهما كانت تبريراته وذرائعه واعتباراته، وبالذات من طلبة العلم، هو بوجه أو بآخر محرض غير مباشر لأولئك الطغمة، ومروج لثقافة الفتن والتدمير والانتحار.
نحنُ أيها السادة في مواجهتنا للاجرام، الذي تسربل بسربال الدين، نخوض ما يشبه الحرب، وفي الحروب إما ان تكون مع الوطن وإما انك مع أعدائه، وليس ثمة في هذه الحالة احتمال ثالث. بهذا المنطق يجبُ التعامل مع هذه القضية دون أية مجاملات أو اعتبارات؛ فالتساهل مع هذه الظاهرة، أو مع مروجي ثقافتها، أو حتى مع الساكتين عن تجريمها وإدانتها، هو ضرب من ضروب التفريط بالوطن وأمن المواطن بكل المقاييس.
وإذا كان لنا في التاريخ عبرة، فلنقرأ تاريخ «الخوارج» قراءة تبحث في الدوافع والبواعث ولا تتوقف عند النتائج، سنجد ان هذه الفرقة هي أشبه الفرق الإسلامية بفرقة «التكفيريين» المعاصرين. فرقة الخوارج هي أول فرقة في التاريخ شرعت «الاغتيال السياسي» داخل دولة الإسلام، كانت تفسرُ النصوص الإسلامية لأهداف سياسية، ثم تعتبرُ أن تفسيرها هو الوجه «الوحيد» لفهم النص، وبالتالي ترى أن كل من اختلف معها هو «خارج» على الإسلام، ليصبح اغتياله تقرباً إلى الله. قتلَ الخارجي عبدالرحمن بن ملجم الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بدم بارد، وكان مؤمناً إيماناً تاماً أن إراقة دم الخليفة هو اقصر الطرق الى الجنة. وبنفس المنطق ولذات الأسباب يقوم هؤلاء التدميريون بقتل الناس وترويعهم وهز أمنهم اليوم؛ فالاختلاف السياسي هو أس السبب هنا وهو ذات السبب هناك. والسؤال: كيف تم القضاء على ثقافة هذه الفرقة التدميرية في الماضي، بحيث بقيت فكراً وثقافة ونهجاً في بطون كتب التاريخ، ولم يعد لها اليوم اية ذيول في المذاهب الفقهية المعاصرة. السبب في تقديري يعود إلى أن مواجهتهم اعتمدت آنذاك على اتجاهين: السيف والفكر في آن. فالسيف، أو ما يمكن تسميته اليوم بالحل الأمني، كان له دور في تطويق ومحاصرة هذا الفكر بلا شك، إنما الدور الأكبر والأعمق تأثيراً فكان يعود الى الموقف الثابت والحازم الذي تعامل به علماء تلك الحقبة مع هذه الثقافة. ومن قراءة عميقة ومتفحصة لمفاصل هذا الفكر التدميري المعاصر أرى أن ترتكز هذه المواجهة الثقافية على محاور أربعة:
أولاً: جهلهم وسطحيتهم وسذاجتهم في فهم النصوص الشرعية في سياقها التاريخي والمكاني والظروف المحيطة بالنص، وبالذات تلك النصوص المتعلقة بالشؤون الدنيوية.
ثانياً: تكفيرهم المخالفين.
ثالثاً: غياب مصالح الأمة العليا ومقاصد الشريعة في إنزالهم للنصوص على أرض الواقع.
وأخيراً: انعدام وعيهم بطبيعة الصراع وموازين القوى العالمية اليوم، وهذه بالمناسبة أحد أهم تشوهاتهم الفكرية.
إنها دعوة صادقة تحملها هذه العجالة لأن تتضافر كل الجهود، ومن كل الفعاليات، في مواجهة هذا الفكر التدميري الذي يسعى بنا وبخطى حثيثة، إلى فتن لا يعلمُ نهاياتها إلا الله وحده.
|