3 الهمسة الثالثة لأخي همام:
لقد كنت نشطاً ملء السمع والبصر.. يجري هم الدعوة في عروقك ويشاركك يقظتك ومنامك فأنت مثل تيار الكهرباء يجري أثرك فيمن حولك فيحركهم فيما خلقوا له، فهذا يفيض منه النور، وهذا يصدر منه الدفء، وهذا للتبريد والحفظ، وهذا للتطهير والنظافة.
كانت هموم المسلمين تشغل بالك، فيقول لسان حالك أو مقالك:
ولست أبالي أن يقال: محمد
أبل أو التفت عليه المآتم
ولكن ديناً قد أردت خلاصه
أحاذر ان تجني عليه العمائم
|
فما بال هذه النار صارت رماداً.. فأغلقت الباب وتركت الأصحاب، وهجرت الكتاب، واستغرقت في همك الخاص.. وصرت شخصاً كالأشخاص... لقد كنت تعيش بعدد نفوس المسلمين الذين تحمل همهم، فرحاً لسعادتهم، وبؤساً لمصابهم، وتطلعاً لمستقبلهم، وحرقة على واقعهم.
أفرضيت من ذلك بمسكن جميل وسيارة فارهة وزوجة حسناء ووظيفة راقية... هنيئاً مريئاً، فإن هذه الخيرات الدنيوية تجمل وتحسن لمثلك، وماترك نبيك طيبا تيسر له لكن { وّأّحًسٌن كّمّا أّحًسّنّ اللّهٍ إلّيًكّ } وعاود الهم القديم... وظني أن تحت رمادك جمراً يتوقد..
وذو الشوق القديم وإن تعزّى
مشوقٌ حين يلقى العاشقينا
|
أعلم أنك واجهت ممن حولك بعض التنكر، وبعض الإغلاظ، لكن هكذا هم الناس.. صحبتهم تحتاج إلى صبر وتسامح، وحسن تجاوز، وسعة إعذار، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لايخالطهم ولايصبر على أذاهم.
وهكذا كان أنبياء الله ورسله.. ولقد قيل لرسول الله: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.. اعدل يامحمد.. وجد رسولُ الله قومَه.. أنكم مطلٌ يابني عبدالمطلب.. أعطني من مال الله.
وما صده ذلك عن صحبة الناس حتى شاب قبل أوان المشيب لما حطمه الناس وكثروا عليه.. وفي الناس خير كثير لمن صبر عليهم، وعفا عنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وقبل من محسنهم.. {وّلّمّن صّبّرّ وّغّفّرّ إنَّ ذّلٌكّ لّمٌنً عّزًمٌ الأٍمٍورٌ } .
واعلم ان صروف الدهر وتحولات الأمر وغير الزمان قد أخذت من عزيمتك وأوهنت من قوتك، لكن ليكن لك من الثقة بالله ووعده خير زاد {حّتَّى" إذّا اسًتّيًأّسّ الرٍَسٍلٍ وّظّنٍَوا أّنَّهٍمً قّدً كٍذٌبٍوا جّاءّهٍمً نّصًرٍنّا، وّلا مٍبّدٌَلّ لٌكّلٌمّاتٌ اللهٌ وّلّقّدً جّاءّكّ مٌن نَّبّأٌ المٍرًسّلٌينّ} {أّمً حّسٌبًتٍمً أّن تّدًخٍلٍوا الجّنَّةّ وّلّمَّا يّأًتٌكٍم مَّثّلٍ الذٌينّ خّلّوًا مٌن قّبًلٌكٍم مَّسَّتًهٍمٍ البّأًسّاءٍ وّالضَّرَّاءٍ وّزٍلًزٌلٍوا حّتَّى" يّقٍولّ الرَّسٍولٍ وّالَّذٌينّ آمّنٍوا مّعّهٍ مّتّى" نّصًرٍ اللهٌ أّلا إنَّ نّصًرّ اللهٌ قّرٌيبِ}
إن أحلام الطفولة والمراهقة والشباب ربما كانت أقرب إلى البساطة والسذاجة والسرعة، فإذا لامست الواقع وعاشت تعقيده ومشكلاته نضجت.. والشريعة لم تأت لصناعة المعجزات، ولكن جاء التعبد بالممكن والمقدور والمستطاع، وهذا إمامك عليه الصلاة والسلام يترك قتل المنافقين ويدع بناء الكعبة ويجري الصلح مع الوثنيين بمكة ويعود أدراجه بأصحابه.
فحركة الدعوة ليست معزولة عن فهم الواقع والتعامل معه..
فهل ترى احترقت روحك بدلا من النضج؟
إنني أقول وأعزم وأجزم: «كلا وألف كلا».
فروحك التي أعرف روح وثابة، وأنت تعيش هدنة تستأنف بعدها مسيرك.
فيا أيها الحبيب إلى نفسي حاذر الإبطاء فربما سبقك الركب وأنت تتربص، ولا تكن من أهل: لعل وليت.
4 الهمسة الرابعة لأخي صالح:
لازلت بحمد الله مفعماً بالنشاط قوي الهمة، رأيتك قبل أسبوع توزع شريطاً عند الإشارة، ورأيتك قبله تشحن سيارتك بما لذ وطاب من المواد النافعة الماتعة..
وحسناً تفعل.. فهذا الإعلان الذي توزعه عمل كبير ولك مثل أجور من حضر بسببه، لكن حذار ان يلهيك هذا عن بناء ذاتك وتعاهد نفسك بالتأصيل العلمي، وعوِّد نفسك ثني الركب في حلقات التعليم والدرس وفي الانكباب على الكتاب تقرؤه بنهم، وعدَّ ذلك لعقلك كوجبة الغداء والعشاء لبدنك لا قوام لك إلا بها، حدِّث معلوماتك أولاً بأول وواكب الجديد المفيد من علوم الدنيا والدين، فلقد قال ربك لنبيه أول مابعثه: {اقًرأً بٌاسًمٌ رّبٌَكّ..} {اقًرّأً وّرّبٍَكّ الأّكًرّمٍ}.
وهذا التكرار أمر بتكرار القراءة مرة بعد مرة، كقوله سبحانه وتعالى: {ثٍمَّ ارًجٌعٌ البّصّرّ كّرَّتّيًنٌ} فمن توقف عند مستوى معين أو منزلة أو شهادة أو درجة علمية فاته الركب وسبقه الزمان.
لا تثريب عليك في متابعة الأخبار والانشغال بهذه الهموم الكبار والمشاركة في العمل الصالح، بل هذا موسم التدريب واكتساب المهارات، لكن اختلس من وقتك مايزكو به عقلك وينمو به علمك ويصح به فهمك، وإياك ان تكون صدىً يردد مايقوله زيد وعبيد.. أو ان يعلق بذهنك شبهة أو مشكلة علمية فتشغلك عن نفسك. إن الشباب زمن حساس.. وربما انصرف فيه الحماس عند بعض الناس إلى ما لا يجدي نفعاً، كالكلام في زيد وعبيد أو تعاطي الأحكام على العوام، أو على العلماء والحكام، وظن الظان أنه إذا كفَّر هذا وفسَّق ذاك وفجَّر وخوَّن وأجرى الحكم وأمضاه ووقعه ونشر وثيقته أنه قد قضى ما عليه.. وهذا أهون الأمور، بل هذا لو صح لزاد من مسؤوليتك...
دع هؤلاء كلهم... بقيت أنت فما أنت صانع؟
إنك محشور يوم القيامة وحدك، محاسب بمفردك {وّكٍلَّ إنسّانُ أّلًزّمًنّاهٍ طّائٌرّهٍ فٌي عٍنٍقٌهٌ}.
|