اليوم سأتكلم في موضوع آخر أعتقد انه كبير الأهمية.. وهذا الموضوع هو ان الناس تتردد كثيرا في مسألة الذهاب لمراكز الخدمات النفسية. ولن أسميها العيادات النفسية لأن في ذلك خطأ اتمنى ان يزول سريعا. ومن يعمل في مثل هذه المراكز يدرك جيداً حجم المعاناة التي يجدها لدى من يقابله من المترددين. فمعظم الذين يذهبون الى هذه المراكز ينتابهم توتر وقلق شديدان ليس بسبب مشكلاتهم النفسية وانما بسبب شعورهم بالخزي والعيب لذهابهم لهذه المراكز.. فلسان حالهم يقول ليت اليوم لم يأت وأنا ادخل هذا المكان.. إنها مصيبة.. إنها كارثة.. فهذا المكان للمجانين والمتخلفين عقليا ومن يراني وأنا أدخل هذا المكان سيجعل سيرتي على كل لسان.. إني أخاف وأخشى ان يراني من أعرفه.. مصيبة؟! ولقد شهدت بنفسي هذا مرات ومرات.. حيث كان المترددون يتركون المركز ويلغون المقابلة وينزعجون لدرجة تجعلهم يعجزون عن الكلام لمجرد ان لمحوا بطرف البصر من يعرفهم أو يعرفونه.. وما كان مني إلا ان أعمل جاهدا على طمأنتهم واتركهم يرحلون وكلهم شعور بالذنب وكأنهم ارتكبوا جريمة أخلاقية لا سمح الله.
إن من يذهب الى مراكز الخدمة النفسية يحمل هماً كبيراً ويتردد ألف مرة ومرة ويفضل ان يقضي باقي حياته وهو يعاني على ان يذهب لمراكز الخدمة النفسية. وعندما يضطر للذهاب وتدفعه المعاناة يذهب على خجل وقلق شديدين ويتوارى ويخفي وجهه ويمشي ويجر قدماه وكأنه يحمل ثقلا لا طائل له به.. وعندما يجلس في المكتب أمام المتخصص يحتاج الى وقت طويل للطمأنة وتخفيف شدة القلق لكونه ذهب الى العيادة.. وقد يطمئن بعض الشيء عندما يجد آخرين موجودين في صالة الانتظار، فيطمئن حاله انه ليس الوحيد الذي ارتكب هذه الجريمة.
إنها حقا مسألة على درجة من الأهمية.. لأنها قد تجعل انساناً يعاني طوال حياته من مشكلة نفسية قد يكون حلها من اليسير ولا تحتاج الى أكثر من أشهر قليلة، فيفسد على نفسه الاستمتاع بالحياة وعلى آخرين حوله.
ولن أنسى اليوم الذي جاء فيه انسان كان في مكانة ووظيفية عالية وقد تركها وتخلى عنها بسبب معاناته من مشكلة الرهاب الاجتماعي؛ كما كان قد ترك أسرته ومجتمعه وعزل نفسه مكتئبا في مزرعته بعيداً عن الناس لعدم قدرته على المشاركة في المناسبات الاجتماعية. وأيضا لم يرتح في عزلته لأنه كان عليه ان يقف إماماً في الصلاة مع العمال في المزرعة وهذا كان يسبب له ألما نفسيا شديداً لا يحتمل.. وعندما جاء وتلقى الخدمات النفسية - العلاج الدوائي والعلاج النفسي السلوكي - فقد تحسن على نحو لم يكن أبداً يتوقعه في خلال ستة أشهر.. وتغيرت سلوكياته وأفكاره الى الدرجة التي أصبح معها يقول.. إني أشعر بأنني ولدت من جديد اليوم أدركت بهجة الحياة.. استطيع اني اتعامل مع من حولي في يسر.. ان أشارك أسرتي وعائلتي أفراحها وأحزانها.. وما أكثر ما قال، ولكن تعليقه النهائي كان من الأهمية ان يلفت نظري.. فقال:«تعرف اني من سنوات أقرأ وأشاهد واسمع عن مشكلتي وان لها حلا.. ولكن أكثر ما كان يزعجني هو كيف اذهب الى العيادة.. لقد ترددت ألف مرة.. وعندما جئت كنت اخفي وجهي.. وفتحت ملفاً باسم غير اسمي لأني كنت أشعر بأنها مصيبة لو رأني أحد أعرفه وأنا أدخل هنا.. وكنت في سبيل ذلك أعاني وأعاني وأعاني.. اليوم أدركت أني كنت على خطأ وان ما اشعر به اليوم هو شيء مختلف تماماً.. وانهى كلامه قائلاً:«متى يأتي اليوم الذي تذهب فيه الناس الى مراكزكم وهي مرتاحة البال وأنها ستحصل على المساعدة المطلوبة في يسر وبلا معاناة».
هكذا يواجه المتخصصون كل يوم: معاناة عند اللقاء الأول.. وبهجة عند التحسن ودعاء.. إنهم يواجهون معاناة وآلاماً ليس فقط بسبب المشكلات النفسية وإنما أيضا بسبب المفاهيم الخاطئة الموجودة عند عامة الناس والتي قد تجعل الكثير يفضلون المعاناة على طلب المساعدة.. ومن هنا فإن من الواجب على الجميع ان يعمل على تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة..وأولها انه ليس كل من يذهب الى مراكز الخدمة النفسية مجنوناً أو مختلاً عقلياً أو متخلفاً.. هذه واقعة علينا ان نقبل بها.
إن مراكز الخدمات النفسية التي أصبحت اليوم منتشرة وكثيرة تقوم على تقديم كثير من الخدمات على يد كفاءات علمية ومؤهلة تعرف ماذا تفعل وكيف تفعل لتلبي حاجات قطاعات كبيرة من الناس ليس فقط من يعانون من مشكلات نفسية وإنما أيضا من ينشدون التطوير والتغيير للأفضل.
ومن هذه الخدمات الكثيرة:
1- التقييم: بحيث يمكن التعرف على القدرات العقلية «الذكاء» وجوانب القوة والضعف في الشخصية وخصائص الشخصية والمهارات المختلفة.
2- التدخلات العلاجية ومعالجة أشكال مختلفة من المشكلات النفسية كالقلق والرهاب والوسواس القهري والاكتئاب واضطرابات الشخصية.
3- تعزيز الصحة النفسية واكتساب المهارات الايجابية حيث تعلم المهارات الاجتماعية وكيفية التعامل مع الحياة وكيفية اتخاذ القرارات وحل المشكلات والتفكير الايجابي وتحسين الحياة.
4- تقديم الارشاد والاستشارات في المشكلات الأسرية والزواجية ومشكلات وصعوبات التعلم وكيفية التعامل مع المراهقين.
إن الخدمات التي تقدمها مراكز الخدمات النفسية تقوم على مساعدة الناس على التغيير وتعزيز التطور الايجابي والاستمتاع بالحياة وتغيير التصرفات السلوكية المضطربة وأساليب التفكير الخاطئة وكيفية ضبط الانفعالات وتحسين مهارات التعامل مع الآخرين.. وكل ذلك من أجل رفاهية الانسان وتحسين جودة حياته.
* استاذ علم النفس المساعد - جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية
|