Saturday 17th may,2003 11188العدد السبت 16 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الثقافة المغيبة في هيئة الثقافة الثقافة المغيبة في هيئة الثقافة
عبد العزيز السماري

الثقافة وشؤونها ورموزها بدأت تأخذ حيزاً في الاطروحات الصحفية، وبُعداً جديداً في سياسات الاعلام القادمة، فالمطالبة بالاهتمام بالثقافة كوسيلة للخروج من الأزمة الحالية وأداة قادرة على فهم طلاسم دوافع الإرهاب المحلي تكريس للطرح الذي يرى أن العنف تغذيه فقط اتجاهات فكرية ونظرية بحتة، أو أنه مجرد سوء فهم لنصوص شرعية، ولا مجال لتقويمه واعادته إلى الجادة الصحيحة إلا من خلال الحوار والطرح الثقافي أوالتفسير الشرعي المضاد، وهو ما يدفعنا للتساؤل وطرح أكثر من علامات استفهام حول جدوى هذا الخيار النظري، فهل مزيد من مثقفي الأبراج العالية هو بالفعل المخرج الحقيقي من واقع الفوضى والارهاب؟،.. وهل مجلس ثقافي يتكون من ناقد أدبي وفنان شعبي أوتشكيلي قادر على فك ألغاز تدهور الأمن الاجتماعي، وضبط حالة اللاتوازن التي نعيش فيها منذ مدة ليست بالقصيرة؟.. على الرغم من أن هذا لا يعني على الاطلاق التقليل من أهمية ما يقدمه هؤلاء للمجتمع من ابداع.
وعندما نتحدث عن الثقافة، لابد أن نتفق أولاً على ماهية المثقف، وهو سؤال يظل بلا اجابة محددة، فالمثقف كائن بشري غير واضح الملامح، ولا يحمل صفات مميزة، ولا يصنف دوره كمهنة أو حرفة، ولعل خير تعريف قديم يلجأ إليه العرب في تتبع مفهوم المثقف، هو ما قاله الجاحظ بأنه «الأخذ من كل علم بطرف» وهذا ما كان يناسب حقيقة ثقافة ذلك العصر، ذات الطابع الشمولي، وبسهولة سيدرك المتابع، أن الأخذ من كل علم بطرف، يكاد في زمن التخصص أن يصبح ضرباً من المستحيل، وقيل قديماً أيضاً أن الثقافة هي الأفكار التي تقوّم الإنسان والمجتمع، أليس العرب من يقول ثقف الشيء أي عدَله وأصلح أعوجاجه..؟
لكن تحديد المثقف في العصر الحديث تجاوز تلك الشمولية، إلى مفاهيم أكثر عملية وأجدى منفعة، فهناك الآن من يرى أنها صفة فقدت نخبويتها، وأن الغالبية في بيئة العمل مثقفون، فالمدرس والمهندس والمهني والتاجر، والعامل والبائع أكثر تمثلاً بقيم الحداثة والثقافة من غيرهم، فهؤلاء اكتسبوا طبائع متسامحة وأخلاقيات عمل مرنة ومجدية، كما اتقنوا قدرات التواصل مع الآخر في المجتمع وخارجه، وكيفية التعامل مع أقرانهم في المجتمعات البعيدة، وأجبرتهم ظروفهم المهنية على التعامل مع أعداء الأمس، من أجل أداء وظيفي أفضل، وتحكمهم بانضباط قوانين السوق والمؤسسة وآلياتهما، فثقافة العمل وهيمنة مفاهيمها على المجتمع قادرة على اذابة الخلافات الموروثة وصهر علاقات الكراهية والبغضاء، وبناء علاقات المصلحة الايجابية في المجتمع، واحترام مبادئها.ولكن بالرغم من ذلك، ولأسباب لها علاقة بالعقل السياسي، لم يحظ المهني أو العامل بشرف الوضع الاجتماعي الذي يناله المثقف في المجتمع، وإن استحقه عملياً، فتجارب الحضارات الحديثة أثبتت أنهم نواة المجتمع المدني المسالم، وأرجو ألا يفهم من هذا الطرح أنني أطالب بمنحهم تلك الدرجة «الوهمية»، ولكنني أدعو لاطلاق عنان التفكير والاصلاح خارج منظومة النخبة أوالخاصة إلى أولئك الذين يمتهنون العمل ويجيدون ثقافته في المجتمع، فهم بكل تأكيد أكثر حرصاً من محترفي الفكر المجرد، وأكثر نفعاً لبناء حضارة عملية من جدل تيارات سياسية لم تتوقف عن الانشقاق منذ القرون الأولى.فالثقافة في برجها النخبوي «وظيفة» لها خصائص وسمات حددها أحد الفلاسفة وأطلق على حامل لوائها المثقف العضوي وهو ذلك المتخصص الذي يقوم بأداء أدوار خارج المنظومة الثقافية العملية في المجتمع، ويرتبط بصورة مباشرة بالطبقات أو المشاريع التي تستخدم دعاية المثقفين لتنظيم مصالحها واكتساب المزيد من السلطة والسيطرة، أي أنهم يكافحون بصورة ثابتة لتغيير العقول والأفكار لخدمة مصالح خاصة، وقد يكون ذلك المثقف العضوي دينياً أو لا دينياً، وإن اختلفت توجهاتهم، فهم يتحدثون للمجتمع من أبراج عالية وخارج علاقات السوق العملية بعكس المثقفين الطبيعيين كالمعلمين والأطباء والمهنيين والعمال، والذين يعيشون على أرض الواقع، ويحرصون على استقرار واستمرار منافعهم من خلال علاقاتهم مع الآخر، حيث يؤدون العمل نفسه،ويحرصون على تطوير نوعية انتاجه، ويؤمنون تماماً بضرورة الاستقرار السياسي وأهمية الدفاع عن حقوقهم بالوسائل السلمية، أي أنهم يقدمون الصورة الحية للمثقف الطبيعي إن صح التعبير، والذي يملك القدرة على التكيُّف مع متطلبات الحياة الواقعية بعد انضمامه لمنظومة العمل في المجتمع.
بينما المثقفون العضويون، هم أولئك الذين في حالة حركة وتشكُّل مستمر، ولديهم الميل إلى الانقلاب من اليسار إلى أقصى اليمين، ومن أعلى درجات المحافظة إلى أدناها تحرراً.
وقد شن جوليان لندا في رسالته «خيانة المثقفين» هجوماً لاذعاً على هؤلاء المثقفين الذين يهملون نداءهم الداخلي ويساومون على مبادئهم التي يحددها ويحكم علاقتها نوع الحاجة المتبادلة بين المثقف والسلطة، والتي تدعو كلاً منهما على الإقدام على ابرام عقد غير ظاهر، من خلال علاقة مصالح نفعية براغماتية، وعلى حساب منظومة قوانين الدولة ومتطلبات المواطن الضرورية، وأيضاً على حساب ماء وجه المثقف الذي يريقه على سطح البلاد أو عند باب الغار أو في أي مكان آخر، يجد فيه مصلحته الشخصية، ويذهب جوليان لندا إلى القول إن المثقفين الحقيقيين قلة وندرة، وهم تحديداً الذين يقومون بأدوارهم الفعَّالة عندما تحثهم مبادئ العدالة والحقيقة النزيهة لكي يشجبوا الفساد ويدافعوا عن الضعفاء..!
الكثير يعيش في قلق وخوف على وطنه ومجتمعه ومكتسباته، وهو يتابع أصداء تلك العاصفة «الثقافية» التي يعيشها واقعنا، فالمجتمع يزدحم بألوان طيف لا حدود لها من الطرح الديني والثقافي، ويعيش في ظل جدل لا نهاية له بين مثقفين عضويين من تيارات متضادة، لا تتوقف عن طرح أفكارها على صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات والانترنت، تتشابه في الأدوار ولكن تختلف في الاتجاه، فبينما أحدهم يتخذ من «المطبخ» الثوري القابع تحت الأرض حصناً لشن غاراته الدموية على المجتمع، يجلس الآخر مزهواً في صدر الصالون الثقافي، ينظر سياسات غيرمجدية، ويعد بمدينة المثقفين الفاضلة..!
بينما يرى أغلب افراد المجتمع ومثقفيه الطبيعيين أن الوصول إلى أهداف احترام الآخر والتعايش بسلام وتحقيق المصلحة الخاصة والعامة سيتحقق عبر تعميم ثقافة العمل، وذلك من خلال توفير الأجواء الملائمة التي تذلل صعوبات الحصول على فرص التعليم والتدريب والعمل..، ومنهم أيضاً من يراهن على نجاح تحويل المجتمع إلى ورشة عمل، وعلى قدرة تلك البيئة العملية على تحقيق الاستقرار وضمان الأمن الاجتماعي، وتهيئة الأرضية الصحية لتنمية فعاليات المجتمع المدني وتحقيق العدالة للفئات المهمشة، ونشر ثقافة التسامح والتضامن بين أفراده، وإذا هيمنت فعالياته وازدهرت عوائده، سيخرج «تلقائياً» على هامش ذلك الاستقرار، الفنان التشكيلي المميز والمسرحي البارع، والناقد الأدبي الرائع والمفكر الذي تنحصر اهتماماته في سوسولوجيا المتغيرات ونقد الظواهر الجديدة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved