إن البيان الصادر عن هيئة كبار العلماء حول خطورة التسرع في التكفير والقيام بالتفجير صدر من علماء ربانيين في هيئة علمية كبرى يرأسها وقت صدور البيان سماحة الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله، والعلماء هم أعرف الناس بالحق وأرحمهم بالخلق وهم ورثة الأنبياء والمرجع العلمي للأمة في السراء والضراء، قال عنهم الإمام الآجري رحمه الله: «هم أفضل من العباد وأعلى درجة من الزهاد حياتهم غنيمة وموتهم مصيبة.. من أطاعهم رشد ومن عصاهم عند، ما أشكل على قضاة المسلمين من حكم فبقول العلماء يحكمون وعليه يعولون فهم سراج العباد ومنار البلاد وقوام الأمة وينابيع الحكمة بهم تحيا قلوب أهل الحق وتموت قلوب أهل الزيغ مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا وإذا أسفر عنهم الظلام أبصروا..»أ.هـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «يجب على المسلمين بعد موالاة الله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم» أ.هـ.
إذا تبين هذا فإنه يجب الرجوع إلى العلماء في قضايا الشريعة وخصوصا ما يتعلق بالأحداث المهمة وقضايا الأمة والحذر من الرجوع إلى غيرهم من المتعاملين أو أنصاف المتعلمين.
إن من علامة الخير والسعادة بالأمة القرب من العلماء والالتفاف حولهم و عدم البعد عنهم لاسيما في أوقات الفتن، ومن علامة الشر والهلاك البعد عنهم وتزهيد الناس في أقوالهم فضلاً عن تنقصهم أو الوقوع فيهم خصوصاً إذا كان كلامهم حول النوازل والأحداث والفتن التي تحل بالأمة فتجد من ينقصهم ويرميهم بعدم فقه الواقع تارة!! أو أنهم لا يعلمون من الفقه إلا فقه الحيض والنفاس تارة أخرى!! {كّبٍرّتً كّلٌمّةْ تّخًرٍجٍ مٌنً أّفًوّاهٌهٌمً إن يّقٍولٍونّ إلاَّ كّذٌبْا} قال الإمام ابن عساكر رحمه الله: «اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار متنقصهم معلومة، وقل من اشتغل في العلماء بالثلب إلا عوقب قبل موته بموت القلب فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم».
وقال العلامة المحدث الألباني رحمه الله: «أما الطعن في بعض العلماء أو طلاب العلم ونبزهم بجهل فقه الواقع ورميهم بما يستحى من إيراده، فهذا خطأ وغلط ظاهر لا يجوز استمراره لأنه من التباغض الذي جاءت الأحاديث الكثيرة لتنهى المسلمين عنه لتأمرهم بضده من التحاب والتلاقي والتعاون» أ.هـ.
وقال الشيخ العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله: «لهذا نرى أن إشغال الشباب عن التفقه في دين الله عز وجل إلى التفقه في الواقع ومطاردة المجلات والصحف والإذاعات وما أشبه ذلك.. نرى أنه خطأ في المنهج..»أ.هـ.
وقال الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله بعد كلام له حول خطورة الاستهزاء بالعلماء: «لاسيما وأننا نسمع في زماننا هذا من يتكلم في أعراض العلماء ويتهمهم بالغباوة والجهل وعدم إدراك الأمور وعدم فقه الواقع كما يقولون وهذا أمر خطير، فإنه إذا فقدت الثقة في علماء المسلمين فمن يقود الأمة الإسلامية ومن يرجع إليه في الفتاوى والأحكام؟؟ وأعتقد أن هذا دس من أعدائنا وأنه انطلى على كثير من الذين لا يدركون الأمور أو الذين فيهم غيرة شديدة وحماس لكنه على جهل فأخذوه مأخذ الغيرة ومأخذ الحرص على المسلمين لكن الأمر لا يكون هكذا. أعز شيء في الأمة هم العلماء فلا يجوز أن نتنقصهم أو نتهمهم بالجهل والغباوة وبالمداهنة أو نسميهم علماء السلاطين أو غير ذلك، هذا خطر عظيم يا عباد الله، فلنتق الله من هذا الأمر ولنحذر من ذلك فإنه كما يقول الشاعر:
علماء الدين يا ملح البلد
ما يصلح الزاد إذا الملح فسد» أ.هـ.
وممن رد هذه الشبهة وهي اتهام العلماء بعدم فقه الواقع الشيخ العلامة صالح آل الشيخ فقد وصف هذه المقالة بأنها مقالة سوء.
وسبحان الله.. فلقد أخبرتنا التجارب السابقة والدروس الماضية عندما انكشف الغطاء عن نوازل وأحداث مرت بالأمة تخرص فيها متخرصون وأجلبوا بخيلهم ورجلهم في شأنها ثم أصدروا أحكامهم عليها باليقين التام الجازم!! ولما تكشفت الغمة أصبحت أحكامهم كسراب بقيعه يحسبه الظمآن ماء، وأما العلماء فكان القول قولهم وصمام الأمان الذي دفع الله به الشر عن أمة الإسلام.
أشار البيان إلى أن التكفير حكم شرعي مرده إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والتساهل في إطلاقه بلا برهان خطر عظيم كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه» وهذا الأصل العظيم قد قرره أئمة أهل السنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، وقال أيضاً: فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه ولا تزني بأهله لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق الله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله».
كما أشار البيان إلى ضابط مهم من ضوابط التكفير وهو التفريق بين التكفير المطلق والتكفير المعين، فقد جاء في البيان قوله: «وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به لوجودمانع يمنع من كفره، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها وانتقاء موانعها..الخ»، وهذا الضابط المهم قد قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: «حقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفراً فيطلق بتكفير صاحبه، ويقال من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها».
هذا البيان فيه تدعيم لقوى الأمن الفكري المتمثل في الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، وتكمن أهمية هذا الأمن في أنه أساس ما بعده من أنواع الأمن فصار حرياً بشباب الإسلام أن يتربوا عليه حتى لا يتأثروا بالأفكار المنحرفة والعقائد الزائغة المخالفة لمنهج سلفنا الصالح، وإذا حصل فساد الفكر بالبدع والأهواء نتج عنه الخلل في هذا الأمن المهم وتولدت اعتقادات فاسدة أصبحت منطلقاً للفساد القولي والفعلي وسبباً في خلخلة الأمن العام وإشاعة الفوضى بين الناس كما حصل ذلك من الخوارج في الزمن الماضي وكما هو حاصل الآن من أفراخهم الذين دأبوا على الطعن في ولاة الأمر والوقيعة فيهم وتأليب الناس عليهم، وأول من يقوم برفع راية الأمن الفكري والتصدي لهؤلاء وكشف عوارهم هم العلماء السلفيون الذين رسخت أقدامهم في العلم وشابت لحاهم في تحصيله والدعوة إليه، فما أجمل الالتفاف حولهم والرجوع إليهم وما أقبح البعد عنهم والتزهيد في أقوالهم.
وأخيراً فإن هذا البيان رد واضح على أهل البدع والأهواء الذين نصبوا العداء لعلمائنا خصوصاً وللدعوة السلفية عموماً فاتهموها زوراً وبهتاناً بالغلو في التكفير وصدق الله تعالى إذ يقول: {قّدً بّدّتٌ البّغًضّاءٍ مٌنً أّفًوّاهٌهٌمً وّمّا تٍخًفٌي صٍدٍورٍهٍمً أّكًبّرٍ} وفق الله علماءنا وولاة أمرنا لما فيه صلاح العباد والبلاد، ووقى الله بلادنا إرجاف المبتدعين وشر أهل الأهواء الحاقدين.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
كتبه / عمر بن عبدالرحمن العمر
إمام مسجد إمام الدعوة - بمدينة الرياض
|