لقد أظهرت لنا عمليات الانفلات الأمني في العراق التي شاهدناها منذ البداية صعوبة إرساء السلام في ذلك البلد الذي حطمته الحروب، ومن المؤكد أن أية عمليات إمداد بالمعونات الإنسانية بصورة كافية أو البدء في عمليات الإصلاح والوصول إلى الحالة الطبيعية في العراق سوف تتطلب في البداية معالجة تلك الفوضى في ظل وجود قانون، والمهام المطلوبة منا شبيهة بتلك التي واجهناها في العديدمن بقاع العالم في العقد الماضي في مناطق مثل هاييتي وأفغانستان، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو هل نستطيع أن نحقق سيادة القانون في العراق؟ولكي نبدأ في تحقيق ذلك سوف تقوم وزارة العدل الأمريكية بإرسال أول أعضائها، ضمن فريق مكون من 26 عضوا قضائيا لتقييم الوضع في العراق، وعندما يعود ذلك الفريق بعد أسبوعين من بدء عمله، الذي سوف يشتمل أيضا على ممثلين من كندا والدانمارك وبريطانيا، فسوف يكون قد أعد تقريرا عن الحالة في العراق، والذي من المتوقع أن يشير إلى الاحتياجات الكثيرة والمهام الملحة، ولكن حتى يكون هناك نظام قضائي في العراق، فسوف يكون الوضع حاليا كالآتي: فريق من المتخصصين الأذكياء الذين سيحاولون الارتجال بقدر استطاعتهم.
وبالطبع من واقع الخبرات السابقة سنجد أن المطلوب منذ البداية هو أن يقوم الجيش بفرض المبادئ الأساسية للأمن، وأن يقمع أي قوات معادية وأن يضمن التحكم في الجماهير والنظام العام، وفي أعقاب الانتصار الأمريكي ظهرت حاجة ماسة إلى قوة شرطة في العراق، ولكن هذا لن يكون سوى البداية؛ فعلى سبيل المثال إذا ما استطاع الجيش القبض على المشتبه في قيامهم بجرائم خطيرة، فأين سيقوم باحتجازهم؟ ومن الذي سيقوم بإعداد عريضة الاتهام ضدهم؟ ومن الذي سيدافع عنهم؟ومن الذي سيحكم عليهم؟ وطبقا لأي قانون؟ وقد صرح الرئيس السابق لمباحث السرقات في شرطة بغداد أنهم قاموا بالإفراج عن المجرمين المشتبه فيهم قبل يومين، وذلك «لأنهم لم يكونوا متأكدين ماذا سيفعلون بهم».
ففي المراحل الأولى يجب أن يتولى الجيش شئون السجون ويقوم بالوظائف القضائية بصورة مباشرة، ولكن هذا ربما لن يكون مقبولا في ظل الوضع الحالي، الذي تظهر فيه الجيوش بمظهر المحتل ولذلك عواقبه السياسية السلبية، لذا فيجب أن يتم نقل مسئوليات الوظائف المتعلقة بالنظام القضائي، بما في ذلك الشرطة ومسئولية السجون والقضاة في يد منظومة مدنية يتم تحديدها مسبقا في أسرع وقت، مثل أن تكون في يد وزارة للعدل يتم تعيينها أو في يد المحاكم.
والعراق كان له نظام قضائي متطور للغاية، ملحق به محاكم أدنى للجنايات والمحاكم المدنية ومحاكم الاستئناف، كما كان له بنية أمنية خاصة، ولكن الاستقلال القضائي والتكامل القانوني برغم ذلك كان قد تلاشى بصورة سيئة على مر العقود الأخيرة على يد حزب البعث، ولكن بالرغم من ذلك فإن هذه القيادات السابقة لا يمكن استثناؤها من النظام الجديد، فليس كل المسئولين السابقين كانوا فاسدين، لذا ينبغي على القيادة العسكرية الأمريكية التي ستتولى زمام الأمور أن تقوم بفرز كوادر قوات الشرطة ومسئولي السجون ووكلاء النيابة ومحامي الدفاع والقضاة،وعندما يستطيع المسؤولون الحكوميون القبض على زمام الأمور في البلاد، ينبغي حينئذ على المسئولين الأجانب أن يكون لهم دور رقابي فقط ويوكل لهم مهام بناء النظام العام المحلي في العراق.
وربما تكمن المشكلة الأساسية في أنه لا الحكومة الأمريكية ولا أحد آخر لديه وصفة ناجعة لتحقيق دور القضاء بصورة سريعة في فترة ما بعد الحرب، ولكن الواقع يملي علينا ضرورة الاستجابة بصورة سريعة.
ويجب إعطاء الأولويات إلى المهام المتعلقة بإرساء العدل والتحقيق في الفظائع التي ارتكبت في الماضي إلى جانب إعادة بناء النظام القضائي، كما ستكون هناك حاجة إلى إعداد قائمة مفصلة متأنية للمصادر الدستورية المختلفة التي سيتكون منها القانون والتقاليد القضائية بما في ذلك الشريعة الإسلامية، وهذه الفترة الانتقالية التجريبية يجب أن تحاول الإجابة عن بعض التساؤلات المهمة مثل أي قانون سوف يطبق على سبيل المثال، وقد كانت تلك المشكلة من إحدى القضايا التي أزعجت الأمم المتحدة في أثناء سعيها لإرساء السلام في كوسوفو وتيمورالشرقية.
من المؤكد أن الجهود الدولية للتشجيع على سيادة القانون في العراق سوف تركزعلى أمر هام للغاية؛ وهو أن الولايات المتحدة وحلفاءها كان لهم أحقية مطلقة فيما يتعلق بمهام القتال والحروب، ولكن لا أحد له أحقية مطلقة في مسألة إعادة بناء الدولة العراقية.
* محام وزميل بمجلس العلاقات الخارجية
خدمة كريستيان ساينس مونيتور - خاص ب«الجزيرة»
|