Thursday 15th may,2003 11186العدد الخميس 14 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

ميلاد .. خارج الأقواس (1) ميلاد .. خارج الأقواس (1)
شاكر سليمان شكوري

تفضل الصديق الكريم اسماعيل سجيني بإهدائي نسخة من ديوان ابنته «هيلدا» المعنون «ميلاد بين الأقواس» وقد وجدتها فرصة لأخفف على قارئي وعلى نفسي بالخروج من عنت الكتابات التي انحالت سياطا تلهب ظهورنا.. بأيدينا، وقررت أن أقرأ معك عزيزي القارىء هذا الديوان.. المفاجأة.
فمنذ تصافح عيناك العنوان لابد ان يكتنفك عنصر المفاجأة التي (تصر) عليها شاعرتنا المرهفة الحس، منذ يطالعك العنوان بقدر بعيد من اللانمطبة، لكنه يبقى في دائرة التفسيرات الفضفاضة الممكنة، فلا هو بالغموض المبهم إلى حد إلغاء العقل، ولا هو بالشائع المطروق إلى حد الابتذال والعدمية. وفي إصرار على (الاختلاف) تصدفنا مفاجأة ثانية في «مايشبه الإهداء» ... هكذا أطلقت على صفحة الإهداء في صدر ديوانها:
سأبقي هذا المكان خالياً..
كصفحة بيضاء تسرُّ الوارفين
وكتلك الأيدي التي امتدَت..
وشاركتُ في صُنع (الميلاد).
على مفرقٍ من (الأقواس)..
والتحدِّي.. والمستحيل
سأبقي هذا المكان شاغراً بالحب..
لكل من تصل يده إلى كلماتي..
قبل أن يصلَ إليها الماضي
أو يغتالها النسيان
وأسلوب المفاجآت كما تلاحظ لا يمنع إحساسك بتلك الرقة العذوب في تيار وجدان الشاعرة.. ينساب امامك على الورق.. يداعب الإنسان في داخلك.. يربط بأحلام الحداثة الناضجة عند (هيلدا).. وحتى الاسم ما أروعه دلالة على الرقة والندرة معاً.
ثم إنها تصور لنا أحلامنا الجميلة ذات الخصوصية المنفلتة من كبت الماكينة الطاحونة.. في أساطير الأقزام.. الأميرة.. سندريلا..
تنسجها ليال.. تستفتحها بليلة.. غادرة.
غَدرْنا بالشمس.. تحزَّبْنا ضدَها
وقفنا وراء المصابيح
رفعْنا شعاراته.. انتخبْنا رئاسته
ادِّعينا أنَّ المصباحَ أنجبَ الضوءَ ووأد الظلام
وأن الشمسَ لم تنجبُ إلا النهار
مسكينة هذه الكتلة المنصهرة
مسكينة حين غدرنا بها
بتهمة نصف العطاءِ.. ونصف اليوم
وقد تشعر أنك أمام هذه الليلة تسمرت.. تأبى أن تفارق حتى تستكشف من هو المصباح على وجه اليقين، ومن هي الشمس. ولكنك.. ربما قبل أن تدرك مقصدك.. تغادر إلى ليلة أخرى.. حزينة.. جاءت تراكيبها مكتنفة بالرقم 37.. ولابد أن يفيق الحالم في دنيا الشعر عندما يصطدم بالأرقام عموماً، ناهيك عن عدد (أولي) أناني لا يقبل القسمة أبدا إلا على نفسه.. وهو الفاصل بين السلامة والعلة كمقياس الحرارة لجسد الإنسان.. وعذابه...
لكنها تناشد في النهاية ذلك العاجز عن التعبير عن حزنه.. مغرية إياه بالمشاركة..
مادمْتَ عاجزاً عن التعبير عن حزنك بطريقة فطرية
وما دام البكاءٌ عيباً.. وضعفاً.. وأنوثةً
اجهشٌ بالضحك..
وسأجهش معك
والمفاجأة هنا أيضاً.. في أن الناس تجهش بالبكاء، وشاعرتنا تجهش بالضحك.. فلا نعد ندري أهو الضحك حقا؟ أم هو البكاء المطحون بأصباغ الصبر والخجل!
إنها على كل حال دعوة للبكاء، فالبكاء يا رجل نشاط إنساني فطري.. وليس فيه ما يخجل!
وفي ليلة.. هي ذكرى.. شفافية الغواني في الهوى الباكر.. والموقوف ربما حتى إشعار آخر.. صراع بين الوصل الذي يدق به القلب أبدا منخلعا على الحبيب، وبين الصد والتمرد على النفس.. وعلى الهوى.
تذكرتْنَي فجأة..
كنت أهرولُ في دهاليز العتمة
سمعتُ لهفة صوتكَ تناديني
تصدرُ أوامركَ الشهيةٌ باعتقالي
تمدَّدُ ذراعيكَ أمامي.. لأرتميَ.. وأتمدد
رفضتُ لهفتك.. تمرَدتُ على ذاكرتك
بعثرتُ ذراعيك بعيداً..
وتابعتُ الهرولة من جديد
والتوتر الذي يلازم الفنان، والأرق الذي كما النحلة على الزهر تقتات ثم تفرغه رحيقا سائغا للشاربين.. والشجن الذي يقتضي الاستعداد الدائم للأحزان بارتداء ثوب ملائم.. وزينة تناسب المقام.. وشعَر منثور.. وشحوب على شحوب.. وكل أدوات السهاد تشحذها الشاعرة:
ارتديتُ فستان الحدَاد
ونثرْتُ شعَري
أضفتُ شحوباً إلي شحوبي
أفرغتُ زجاجةَ الأقراص المنوَّمة على الأرض
شربتُ عشرة أكواب من القهوة
وغليتُ مئةَ ورقة شاي..
عصرُتها داخل جوفي
خفتُ أنْ يفاجئَني الحزنُ.. ولا أكونُ مستعدةٌ لاستقباله
أريد أن أبقى مستيقظة.. ومتزنةُ
حتي أستقبل حزني كحبيبٍ انتظرتُ لقاءه..
وأشتقتُ لأن أطارحه الدموع
لكن ما هية الحزن تبقى في عالم المجهول.. والجدة المعهودة هنا أن تستقبل الحزن حبيبا يُنتظر.. كي تطارحه لا الهوى والغرام.. وإنما الدموع!
ويا لهف قلبي على بُنية لم تخرج بعد عن الطوق.. حمامة تفتحت عيونها على مفردات : التربص.. القنص.. الشباك.. الأقفاص الصدئة.. وقد أوهنها على وهن كَرّ الفرار..
كنتُ (ميلاداً)..
كنتُ كحمامةٍ فتحتْ عينيها على أسرارِ الحياة
نهلَتْ من طقوسِ التربُّص.. والمؤامرات
سئمَتْ من الفرار من قنص الصيادين
وشباَكِ الأقفاص الصدئة
تعبتْ من اتساخ ريشها بأبخرة النقلِ والكلام
ذهلتْ من ضمائر البشر
فقررتْ أن تٌغيِّرَ ملامحها
أن تتخلَى عن هديلها.. ولونها الأبيض
أن تتسع عيناها حدَّ الدهشة
تلبَس فراءَ لونه أسود..
وتتحوَّلُ إلى قطة تمشّط الليل مواءً
ولا تلاحقها تهمةُ التفاؤل بالسلام
وإلى اللقاء لنعيش إن شاء الله الأسبوع القادم مع «هيلدا» في «سبات الشعر».

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved