الذين يُلقون بأنفسهم في أمور لا يحسنونها كثيرون، وربما يكون أحداً واحداً منهم، وتختلف نيَّات الناس في هذا الاقتحام، فمنهم من يحسن الظن بنفسه، وبقدرته على القيام بما ألقى بها فيه، حتى إذا خاض المعمعة، وجد أنَّ الإعداد لما خاضه كان أولى به، ويكون اقتحامه بهذه الروح الواثقة سبباً في عدم تحقيق ما يريد مع أنه صالح النية، حسن القصد لا تشوبه شائبة سوء، ومنهم من يفعل ذلك حباً في المغامرة لذاتها، ورغبة في تحقيق ما يظنُّ أنه لا يتحقق إلا بالاقتحام حتى وإن كان غير مدروس، ومنهم يعتمد على بعض أصحاب الرأي والخبرة فينطلق معهم، الرأي رأيه والتنفيذ تنفيذهم، فهو كمن يستعين بغيره للسباحة في البحر، وهو لا يحسنها.
وفي أمتنا الإسلامية في هذا العصر نسبة كبيرة من الذين لم يتدربوا على الأساليب الأفضل للعمل، ومن بينهم أصحاب رأي وفكر وعلم، وأساتذةٌ ودعاةٌ وكتَّابٌ وشعراء، ينطلقون في الحياة دون تحديد واضح للأهداف الموصلة إلى الغاية، وللأساليب المناسبة لتحقيق الأهداف، والسبب في ذلك واضح لا يخفى على الباحث المتتبع، ألا وهو إهمال جانب التدريب والتطبيق العملي من قِبل كثير من الأسر والمؤسسات والمراكز العامة والخاصة، وهو اهمال ينتج عنه خلل كبير في مجال العمل، هو السبب في كثير من مظاهر «الإخفاق» و«عدم النجاح» التي تتعرض لها معظم المؤسسات والمراكز والشركات في عالمنا الإسلامي.
وإذا نظرنا إلى الأثر المعنوي لذلك الإهمال للتدريب والتطبيق وجدنا أن كثيراً من الاضطرابات النفسية، والحيرة والقلق التي يعاني منها أبناء الأمة الإسلامية، إنما هي بسبب عدم تدريبهم على العمل، وتنمية روح التطبيق الصحيح للمعلومات والأفكار التي يحملونها، وعدم تربيتهم على الاحساس بأهمية الوقت الذي يُعَدُّ الثروة البشرية الكبرى التي تُهْدَرُ في كثير من بلدان عالمنا الإسلامي.
إن كلمة «تمشي الأمور بالبركة» تدلُّ على ضعف إحساس قائليها بحقيقة سنن الله في هذا الكون، تلك السنن التي تترتب فيها النتائج على مقدماتها، والمسببات على أسبابها، ولعلَّ هذا هو الذي كان يريد أن ينبه إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال:«إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة»، إنها كلمة واضحة قوية في بيان أهمية العمل المنظم القائم على الصدق، والمعرفة، والمِران والتدريب، وعلى الاستثمار الحقيقي للوقت دون إفراطٍ ولا تفريط.
هناك اضطراب في نفوس كثير من أبناء المسلمين ناتج عن هذه الفجوة الكبيرة بين النظرية والتطبيق، وبين المعلومة الموجودة في الذهن، وطريقة تحويلها إلى واقعٍ مُعاش.
أحد الشباب كان يعرض مشكلته بالصورة التالية: تخرجت من الجامعة وأنا مؤمن كل الإيمان بخطورة الربا وحرمته القاطعة، وكنت أنظر بقدرٍ كبيرٍ من الشفقة أو عدم الاحترام إلى بعض من أعرفه من أقاربنا وأصدقائنا ممن يعملون في البنوك الربوية، وفي خضم الحياة تعاملت مع مؤسسة من المؤسسات في بلدٍ عربي في أمور مالية عن طريق القروض، وسرت مع هذه المؤسسة حتى نهاية الاجراءات، ولما عرضت الأمر على أحد أقاربي، نظر إليَّ متعجباً - قائلاً - ألست المحارب الأول للرِّبا في جماعتنا؟، قلت له: بلى، قال: فإنك بهذه الخطوة تدخل إلى الربا من بابٍ واسع، وفزعت لهذا الذي قال، وسألته، ماذا تقول، هل أنت متأكد، قال نعم، وشرح لي الأمر، فأنقذني الله مما أردت أن أصنع.
قلت في نفسي: يا ترى ما الذي يمنع أن تكون هنالك دورات تدريبية متخصصة في المدارس الثانوية والجامعات، يطلع من خلالها الطلاَّب على كثير من الأنظمة المتبعة في مؤسسات وشركات ومراكز العالم الذي يعيشون فيه؟
ووقفت أمام هذا السؤال وقفة المفكر في الجواب، وسمعت صوتاً من داخلي يقول: «كلامك صحيح ولكن، من يعلِّق الجرس»، وضحكت مع نفسي حينما خطر ببالي سؤال يقول: يا ترى ما حقيقة هذا الجرس الذي لم يُعلَّق».
«لا تقع في البحر إلا سابحاً» مثل عربي يضرب لمن يباشر من الأمور ما لا يحسن، جديرٌ بأن نتأمله بعمق.
إشارة
ألمعيَّاً يحطِّم الأصناما
روعة الفكر أن يكون حساماً
|
|