على الرغم من التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي، فإن العراق ستبقى«مستوطنة» سياسية إن لم نقل عسكرية أيضا بين أيدي الأمريكيين، الذين عجزوا عن فرض نظرية السلام المرادفة للاستقرار والازدهار.. النظام العراقي الذي سقط كقصر من الورق لم يكن ليصمد كثيرا في وجه «الأرمادة» العسكرية الأمريكية التي لم تجد صعوبة في إسقاطه ولكن حدة الجدال بين أركان الدفاع والبيت الأبيض الذي صارت وسائل الإعلام تتناقله يوحي بأن الحرب على العراق لن تنتهي في الوقت القريب، على الأقل إزاء أيديولوجية التغيير الجذري التي ربما سوف يكون العراق تجربة لها، في الوقت الذي يمكن الكلام فيه عن تقاطع الطريق فيما يخص القضية الفلسطينية..
الإرهاب الذي صارت الولايات الأمريكية تحدده في عبارة «أعمال العنف» لم تسلم منه التنظيمات التي تقاوم المحتل داخل فلسطين، وهذا يعني أن الولايات الأمريكية التي تقود عملية السلام في الشرق الأوسط هي التي سوف تحمل «على عاتقها» نزع السلاح الفلسطيني ليس داخل فلسطين فقط، بل وفي الدول العربية أيضا، لأن بقاء أي تنظيم في حالة نشاط يعني للأمريكيين فشل خطة السلام التي أرادت أن تبدأ انطلاقتها الحقيقية في العراق.
ربما البعض يتكلم عن الصراع الأمريكي الأفغاني، ولا يمكننا المقارنة بين الحرب الأمريكية الأفغانية وهذه الحرب لسببين رئيسيين أولهما أن الأمريكيين يعتبرون العراق أهم من أفغانستان استراتيجيا، باعتبار أن لها حدود مع سورية التي كان مطلب الحرب عليها من بعض الأصوات المساندة لإسرائيل يعني أن سورية ظلت في دائرة الضوء على اعتبار أن الصراع العربي الإسرائيلي صارت تحركه اليوم المطالب الشرعية المتمثلة في جملة من القرارات الأممية التي تسعى إسرائيل إلى إلغائها ودفنها إلى الأبد..
أما الأمر الثاني فهو صيغة الصراع الذي بدأت تتبلور ملامحه منذ نهاية القرن العشرين، وهو الذي فجرته في الحقيقة الولايات المتحدة بأن الحرب المقبلة ستكون دينية...
وإن سألنا على أي أساس ديني؟ ترد الواشنطن بوست بقلم جيري ريدفورد بقوله: التطرف المسيحي المقبل إلى البيت الأبيض، ليس خطرا على الدول الأجنبية فقط، بل خطر على الأمريكيين أيضا، فلا أحد سيرضى أن يموت ابنه لأجل الدفاع عن قناعات دينية غريبة في الوقت الذي يتأسس فيه صرح المدنية المنطلقة من مطلب المساواة بين الناس..».
هذا كلام حقيقي يعري الوجهة الأخطر التي تريد الولايات الأمريكية إتباعها لاحتلال العالم، ليس لتحريره من الديكتاتورية، أو الإرهاب، بل لأن المشروع التوسعي المدرج في إطار الخريطة الجديدة، سوف يؤسس قانونا دوليا آخر لن يكون لغير الأمريكيين حق جدولته، وبالتالي فرضه على البقية كأمر واقع لا حق في الجدال فيه.
حاكم أمريكي
غزو العراق، لم يكن لإسقاط صدام حسين، فلو لم يعارض صدام حسين الأمريكيين، لو مشى على هواهم لأسقطته الإدارة الأمريكية التي كانت تحتاج لسبب كبير كي تعلن الحرب على العراق، وبالتالي كي تحتله، وتفرض عليه حاكما يأتي من الولايات الأمريكية ليحكم الشعب العراقي، وليلقي خطاباته السياسية عليهم بالإنجليزية بينما يجلس إلى جانبه مترجم مطالب بتوصيل الفكرة دونما أخطاء فكرية إليهم.. وهذا يعني أن «الديمقراطية» ليست مشروعا سياسيا ولا إصلاحيا يمكن تطبيقه في المنطقة مثلا، بل هي قرار سياسي يعني في المقام الأول «التعامل مع إسرائيل ليس كعدو بل ككيان حر وموجود» من دون حتى إعطاء الضمانات عن الكيفية التي ستتعامل إسرائيل بموجبها مع الدول العربية، هل ستتعامل معهم كدول حرة وموجودة أيضا أم كدول أعداء؟ المسألة مطروحة فعلا بشكل مهين للغاية، لأن المطلب العربي الأكبر هو فلسطين، وبالتالي تحرير المناطق التي احتلتها إسرائيل بدون حق.
إسرائيل تعتبر الضفة الغربية والجولان أراضي إسرائيلية. في القانون الداخلي الإسرائيلي نقرأ عبارة «التراب القومي» الذي يعني أن غنيمة الحرب بعد 1967م، تحولت إلى «تراب قومي» يقول الإسرائيليون إنهم لن يتنازلوا عنه إلا إذا خسروه في حرب جديدة ضد العرب، وهذا استفزاز مفضوح يعني في النهاية أن الدولة العبرية ستضمن شيئا لم يكن متاحا لها رسميا في السنوات الماضية وهو: تأييد ومساندة الأمريكيين لها، وقطعا لن يكون الأمريكيون وحدهم الذين سيساندون إسرائيل في أي حرب ضد العرب، لأن البريطانيين اعتبروا دائما أن المقاومة الفلسطينية المسلحة ما هي «إلا إرهاب» عسكري، وهذا الكلام لم يقله رجل بريطاني بسيط، بل قاله رئيس وزراء بريطانيا وردده أكثر من مرة وزير خارجيته «سترو»..
جورج بوش أعلن في العديد من المرات أنه يسعى إلى حل نهائي للصراع في الشرق الأوسط، قبل عشرين سنة قالها «رونالد ريغان» الذي يعتبر من الآباء لحركة «السلام الأبدي» التي شكلت خطابا سياسيا لصقور البيت الأبيض الذين استولوا على الإدارة الأمريكية الرسمية سنة 2001م، فليس صدفة أن يكون الخطاب السياسي الراديكالي هو نفسه الذي يعبر اليوم عن الموقف الإسرائيلي من القضية الفلسطينية ومن المنطقة العربية المتهمة بالانغلاق حسب التقرير السري الذي نشرت «نيويورك تايمز» مقطعا منه في يوليو من السنة الماضية..
ما نعرفه هو أن الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة في العراق هي بداية الحرب العالمية الثالثة، وبالتالي هي الهيكل العظمي لحروب قادمة، أكبر وأخطر وأوسع وهو ما ذكره تحت السطور كل من «بول وولفوويتز» و«دانيال بيرل» وهما من أهم مستشاري الرئيس الأمريكي جورج بوش أيام كان مسؤولا عن مشروع «القرن الأمريكي الجديد» (The new American Century) وهذا المشروع يتناول احتلال العالم عبر القوة العسكرية التي تحظى الولايات المتحدة بها (الاتحاد السوفييتي لم يعد له وجود، الاتحاد الأوروبي غارق في الفوضى، والصين تقف في الوراء بكثير) المسألة تعني إغلاق العالم وبالخصوص المناطق الاستراتيجية الحساسة كالشرق الأوسط للحد من أي فرصة للوحدة فيما بين الدول وبالخصوص الدول العربية..
حروب الصدمة والترويع محتملة اليوم ضد أي دولة ترى فيها الولايات المتحدة خطرا، والأمر لن يتوقف على الشرق الأوسط فقط، بل ثمة رغبة أمريكية في الهيمنة العسكرية في آسيا الوسطى، البلقان (الظهرالجنوبي الأوروبي) وآسيا الشرقية وبالخصوص لمنع الصين من أن تكون قوة عظمى..
وحين تتحكم الإدارة الأمريكية في أزمة الشرق الأوسط، سوف تلتفت إلى كوريا الشمالية «العدو الآسيوي الحقيقي» لأن القضاء على «القوة النووية» الكورية سوف يعطي للأمريكيين الضمان الأكبر بأنهم يحكمون العالم حقا، بشكل لا يدعو إلى الشك أبداً!
* «تريبيون دو جنيف» السويسرية
|