تحول البشر في علاقتهم مع بعضهم الآخر من الاعتماد على القوة البدنية الى قواهم العقلية يعتبر لاشك علامة فارقة في تاريخ التطور الانساني، وهناك من العلماء من يعتبر هذا التحول بمثابة ثالث ثورة تاريخية تفجرها الانسانية بعد ثورتيها الزراعية والصناعية، ومما يميز هذه الثورة حقيقة ان تحول الانسان من جسده الى عقله لم يؤد به الى اهمال جسده كما يتمثل دليل ذلك في الرياضة بمفهومها الحديث، فكرة القدم على سبيل المثال تؤكد لنا كيف نجح هذا الانسان في استخدام عقله للسيطرة على جسده حيث استطاع بالرياضة من ان يعيد صياغة العنف البدني في كيانه ليضعه تحت السيطرة العقلية بواسطة ما اشتقه العقل الانساني من قوانين وانظمة وحدود وعقوبات بل وحوافز وجوائز وكؤوس وميداليات، ومن نافلة القول اعادة تأكيد ما للرياضة الحديثة من صلات وثيقة بالعملية التربوية/التعليمية المعاصرة، فالرياضة قد اصبحت جزءاً رئيسياً من ادبيات التعليم ووسيلة فاعلة للتعلم وتنمية اساليب التفكير الخلاق وتخليق العصف الذهني ويكفينا في هذا المنحى ما نلحظه من التداخل الاسمي بين العلم والرياضة، حيث هناك العديد من المفاهيم العلمية التي تحمل اسماء ذات طابع رياضي منها تمثيلاً لا حصراً ما يعرف بنظرية المباراة الصفرية.. اضافة الى ما يعرف بنظريات اللعب ونظريات المحاكاة الفاعلة المستخدمة في تدريس العديد من المواد العلمية، كذلك ليس هناك من شك في اهمية العلاقة الايجابية بين ممارسة الرياضة ونمو المهارات العقلية والذهنية والادراك الحركي وما يعرف علمياً بالابتكار الحركي وخلاف ذلك، ويكفي الرياضة حقيقة قدرتها على القيام بادوار التعزيز والاعلاء نفسياً/ سلوكياً مما جعل منها وسيلة تربوية لاغنى عنها لاسيما للشباب والمراهقين حيث تعيد صياغة العنف بطريقة سلمية وتمتص او تقلل من التوترات النفسية والانفعالية، عليه فالسؤال الرياضي هنا: لماذا يبدو انه كلما تقدمت الرياضة لدينا تزايدت معدلات نكوص او تقهقر سلوكيات شبابنا تماماً على النقيض من المعادلة الانسانية المذكورة آنفاً، ففي اعقاب كل مباراة يمثل طرفها الآخر احد الفرق الكبيرة كما هو مسماها في القاموس الرياضي نرى كيف تحتل القوى الجسدية عقول الشباب حين يحتفلون بالانتصار المفرح بطريقة غوغائية حزينة نتاجها في الغالب الفوضى والقيادة المتهورة ومضايقة الآخرين وو..؟!.
فما السر في قدرة الجسد لدينا على احتلال العقل فينا في وقت لانفتأ نردد فيه ان «العقل السليم في الجسد السليم؟»،.. ما الذي يجعل الجسد الرياضي لدينا يفشل في التعايش مع العقل المدني بطريقة سليمة وسلمية؟ طبعاً لذلك العديد من الاسباب التي يأتي في مقدمتها عدم اعترافنا بحقيقة ان الرياضة لدينا تعاني من داء ازدواج الشخصية ان صح التعبير، حيث نجد انها في الوقت الذي فيه تحتل مساحات شاسعة من الاعجاب في قاموسنا الثقافي نراها تحظى في القاموس ذاته بما يعادل مساحات الاعجاب من الازدراء والوصم والتحقير والتثبيط، كيف لمثل هذه الرياضة الانفصامية القدرة على ترويض الشباب في ظل ما تعانيه من الانشطار الذي هو خصيصة من خصائص ما يعرف علمياً ب«ثقافات العيب»، فالرياضة لم تتأسس في ثقافتنا بطريقة صحية تمنحها القدرة على التأثير والترويض والألسنة.إذن ما هو الحل الأمثل الكفيل بالقضاء على ظاهرة احتفال شبابنا بانتصارات فرقهم الرياضية على نحو عنيف يجلب الحزن ويبعث الأسى..؟ إن الحل يتمثل في اعادة تدوير مفهوم الرياضة لدينا ثقافياً بمعنى تعريفه بصيغة ثقافية تسنت للرياضة التقبل التلقائي من كافة شرائح المجتمع، غير ان هذه العملية تستغرق مع الاسف الشديد ازماناً طويلة كما انها تتطلب الاخذ الصارم والدقيق بكافة انواع التخطيط التي من ضمنها التخطيط الثقافي نفسياً وقيمياً، ومع ذلك فليس هناك ما يمنع من البدء بها من الآن وفي الوقت نفسه وحتى ذلك الحين يتم تسخير بعض الحلول الثقافية/ النفسية المؤقتة للظاهرة الشبابية المذكورة، ومن ضمن هذه الحلول المؤقتة ما يتعين بضرورة ان ندرك أولاً حقيقة ان الكيانات النفسية لهؤلاء الشباب تتعرض طوال المدة التي تستغرقها المباراة لكميات من الشحن الجسدي الذي يفوق بمراحل قدراتهم العقلية على تفريغه عقلياً، ومع ذلك دائماً ما يتم في النهاية اطلاق سراحهم مع طاقاتهم هذه القابلة للانفجار تحت اي مؤثر او حافز، فكرة القدم لدينا تفرغ طاقات العنف لدى اللاعبين فقط غير انها من الناحية الاخرى تشحن جماهيرنا بطاقات لا متناهية من العنف الذي لاينفسه سوى ساحات شوارعنا ونواصيها، اذن لاتتركوا الجماهير تغادر الملعب بمجرد نهاية المباراة وبدلاً من ذلك اعملوا على تفريغ طاقاتهم باستمالتهم الى المكوث في الملعب بوسيلة تشويقية تمنحهم حق المشاركة الفاعلة، كأن مثلاً يتم منحهم فرصة الانخراط في اداء اي نوع من التراث وحسب ما هو شائع في كل منطقة او اقليم، فتمنح جماهير منطقة الوسطى على سبيل المثال فرصة المشاركة في اداء العرضة النجدية المصحوبة بما يخطف الابصار«ويسكن البصائر!»،
من عروض الليزر ذات الالوان الفاقعة الكفيلة بتسريب طاقاتهم وتفريغ كياناتهم مما طالها من جنون الشباب، فالشباب كما تعلمون جنون بشهادة الشاعر الذي شهد بالجنون على نفسه وذلك حين اجاب منذ قرون عدة تساؤل معشوقته «الانسانة لا كرة القدم» بالقول:
قالت عهدتك مجنوناً فقلت لها
ان الشباب جنون برؤه الكبر
|
|