Tuesday 13th may,2003 11184العدد الثلاثاء 12 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

رثاء غير متأخر للمواطن «محسون جلال» رثاء غير متأخر للمواطن «محسون جلال»
أنور عبدالمجيد الجبرتي

ماذا بقي في ذاكرتنا وفي قلوبنا من الدكتور محسون بهجت جلال؟.
شيء واضح.. جلي: كان محسون جلال مواطنا سعوديا شريفا.. ونظيفا ومخلصا.
وحسب المرء إذا رحل ان يتذكره أهله ومعارفه وأصدقاؤه، فيلخصون مشواره في الحياة، وتفاعله مع الناس والأحداث، ومواقفه من القضايا الشائكة والأمور المتداخلة، فيقولون كان «فلان».. مواطناً.. مخلصاً.. وشريفاً.
ومحسون جلال، كان من الرجال القلائل الذين عرفناهم في البدايات، ثم انقطع الاتصال بهم، زماناً طويلاً، ولكننا عثرنا عليهم على مشارف «النهاية» الكبرى، فلم نلمس تغيراً ملحوظاً في الأفكار، والمبادئ، ولم نجد على ثيابهم شيئا كثيراً، من شوائب الطريق، ولم نلحظ على سحناتهم من غبار المشاوير، إلا بعضاً من اكتئاب معاناة الحياة الخاصة، وبعضا آخر من احباطات الحياة العامة وطنيا، وقوميات على غرار ما عاناه ويعانيه أبناء جيله العرب الذين عاصروا الخمسين عاماً الماضية.
كان محسون جلال على سبيل المثال ليبراليا، اقتصاديا، عندما كان هذاالأمر، يعتبر خيانة، قومية، وانسانية، في عالمنا العربي، وبقي محسون ليبراليا، اقتصاديا حتى النهاية.كان يعتقد في اقتصاديات السوق، وفعالياتها، عندما كان «المشروع العام والنهج الاشتراكي»، ديناً، سائداً، لا يجرؤ أحد على المجاهرة بانتقادهما أو مهاجمتهما، والا اعتبره الناس زنديقا، وعميلاً، ومصاص دماء.
ولم يكن محسون جلال يغفل عن قضايا العدالة، والمساواة، وان اقتصاديات السوق، قد تخفق في تحقيق ذلك، عند غياب الادارة الحكيمة الراشدة لـ «السوق» ولكنه، قدَّر بأن وطأة «المشروع العام»، والادارة الحكومية المركزية للاقتصاد، كانت شديدة في العالم العربي، والعالم الثالث، عموماً، وان الأمر، كان يقتضي، صوتاً، ليبرالياً، عاليا، وجهوراً، ومناكفاً، للدفاع عن «السوق» والبادرات الخاصة، والمشروع الخاص.
وكان محسون جلال صوتاً جهوراً، ومناكفاً، في قاعات الدروس، والمحاضرات العامة، والجلسات الخاصة، ولم يكن يتقن كثيراً ارتداء القفازات الحريرية، وصياغة العبارات الدبلوماسية، ومجاملات الحوار الرقيقة، وبقي حتى أيامه الأخيرة، يصدمُك، بالعبارة العادية التي تغشى، خياشيمك، مثل الفلفل الأسود المتناثر، وكنا نسمع ذلك وننظر الى بعضنا ونقول، هذا هو محسون جلال الذي عرفناه قبل ثلاثين عاماً، في قاعة المحاضرات بكلية التجارة، في «عليشة» لم يتغير فيه شيء.
كان حاضراً دائماً، للدفاع عن أفكاره والتبشير بها وتبسيطها واستخدام الأمثلة الشعبية، والكلام «الدارج» لشرحها.
عندما كنا نبحث عن اسم لجريدة الكلية، التي اقترحها عميدنا الجديد آنذاك، غازي القصيبي، أصرَّ على ان نطلق عليها اسم «المنفعة». وكنا نعتقد أنها تسمية ركيكة باهتة، ولكن «المنفعة»، عنده، كانت الأساس النظري لاشتقاق، منحنى «الطلب» في نظرية الاقتصاد الجُزئي، وكان، رحمه الله، متحيزاً لعلم الاقتصاد، إذ كان يعتقد ان علم الاقتصاد هو العلم الأساس في كلية التجارة، أما علم الادارة، أو المحاسبة أو حتى العلوم السياسية، فليست في الأساس، إلا علوماً اقتصادية تتم تهجيتها بحروف ركيكة، ومغلوطة، فحسب.
وعندما ذهبت اليه يوماً لأحصل منه على اشتراكه في رحلة للكلية، اعترض على ان يدفع الأساتذة أكثر من اشتراك الطلاب لأنهم لن يأكلوا ضعف ما يأكلونه، وقلت له: ان الاشتراك يتناسب مع القدرة على الدفع، والأكل على قدر الحاجة، فأجاب بأن هذا مفهوم اشتراكي سخيف، وان التحليل الاقتصادي، يقول بغير ذلك، وأخذت منه صابراً محاضرة طويلة على السبورة تهدف الى استنتاج مقدار الاشتراك الأمثل، في النهاية دفع الاشتراك، كاملاً وهو يضحك ضحكته البريئة المناكفة المعروفة.
كان ينصح بأن نأكل الرز بالشوكة لأن ذلك سيؤثر ايجابيا على منحنى «المنفعة الحدَّية». ودفعنا ثمنا لذلك، لأن أهل «الملاعق» لم يتركوا لنا من الرز إلا قليلاً، ولعل ذلك يقول، شيئا عن حفاوة محسون جلال باقتصاديات السوق، دون ان يعطي وزناً كبيراً ل«سياسات» السوق، ودبلوماسيته، وبنائه، المؤسسي، والاجتماعي.
كان يؤمن بالتصنيع، خيارا، وطنياً، استراتيجياً، وعندما بادر بفكرة «الشركة الوطنية للتصنيع»، حاول ان يحصر، المؤسسين فيها على المهنيين، وأصحاب الرساميل الصغيرة والمتوسطة ودفع ثمناً لذلك، تأخيراً كبيراً، في انهاء اجراءات التأسيس والاطلاق، وهذا مثل آخر، على «براءته» في الاستهانة بالأوضاع «المؤسسية» والاجتماعية للسوق، ولعل معاناته في ادارة الشركة بعد ذلك تعكس شخصية محسون جلال، صاحب الأفكار، والمبادئ، العنيد، الذي لا يتغير، بينما يحتاج الاداريون، والتنفيذيون الى كثير من المصانعة، والتسديد، والمقاربة، والمساومة على المبادئ المطلقة.كان محسون جلال، استاذاً قديراً منصفاً لتلاميذه، من نفسه، ومن الآخرين، وكان يدافع عن مصالحهم، في مجلس الكلية، والقسم، وفي قاعات الامتحان وغُرف «الكونترول»، وفي الدوائر العليا للجامعة. وكان يتقبل ملاحظاتهم، وانتقاداتهم، ويفتح صدره للحوار معهم، ويبذل جهده، ليدربهم على قبول الرأي الآخر، ويعطي من وقته، لكي يسد ثغرات، المناهج ومستويات المدرسين التقليديين، بحيث يكون تلاميذه جاهزين لمتابعة دراساتهم العليا، ونذكر نحن بعض تلاميذه الفائدة الكبرى التي تحققت لنا من ذلك الجهد، عندما ذهبنا للدراسات المتقدمة.
تعلمنا من محسون جلال بطريقته البسيطة والمباشرة، ان نكرس ولاءنا للوطن الكبير، متعالين على محلياتنا و«مناطقيتنا»، فقد كان يضيق، رحمه الله، بالعصبيات الضيقة، والمحليات المتزمته، وكان ذلك هو الدور الكبير الذي لعبته جامعة الملك سعود، الجامعة الوطنية الأولى والكبرى التي جمعتنا من أرجاء الوطن، وصهرتنا في بوتقتها، وكان محسون جلال من الرواد الأوائل الذين كانوا يؤكدون على ان التنوع مصدر للإثراء، وليس للتنافر، وان النكهات المحلية مصدر للدهشة والاثارة البريئة وليست سببا للانعزال والتباعد.
لم يستفد محسون جلال كثيراً من زمان الهبات الجزيلة، والمنح الكريمة، ولم تنحرف قدماه، يمنة ويسرة في أروقة المنافسات الكبيرة والمناقصات الهائلة، واستمر كريم النفس، نظيف اليد عفيف السؤال.
كان يحب ان يعطي للوطن، ولا ينتظر في المقابل شيئا كثيرا. وعندما مرَّت به ظروف صحية صعبة، كان يستكثر اهتمام أصدقائه، وتلاميذه، وسعيهم الى خدمته، ويقول إنهم يبالغون في الاهتمام، وانه لا يستحق ذلك ولا يتوقعه.قد يغضب محسون جلال لو استمع الى اقتراحي باطلاق اسمه على قاعة محاضرات، أو على ركن صغير هنا، أو هناك في الأماكن التي عبرها وقد يرضى محسون جلال قليلاً، إذا تذكر هنا بأننا نمارس حقنا في ابداء الرأي الآخر.ولكننا، لا نريد إلا شيئاً بسيطاً يقول بأن مواطناً سعودياً شريفاً، قد مرَّ يوماً بهذا المكان وترك رائحة نظيفة وطيبة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved