الحالة الراهنة في الوطن العربي حالة استثنائية قلقة، لا تحتمل أنفاساً كريهة، ولا تنقيباً عن نوَّم الفتن، وإنما تقتضي تحامي مناطق التماس، وتوقي مكامن الإثارة، وتحتم استدعاء القواسم المشتركة، والعمل على تقوية الروابط من خلالها، والعفو والصفح، وتجافي المحظور والمسكوت عنه، والكف عن النيل من أقوام بأعيانهم، تغليباً للمصلحة المرحلية، ولماً للشمل. ومثل هذه الظروف الضاغطة مجال خصب للانتهازيين، الذين يبيّتون مالا يرضى من القول. وحين يجازف الفارغون من فقه الواقع، والمفتقرون إلى أدنى حد من الثقافة الشرعية في اقتحام الحمى، والخلط بين مواجهة المبادىء والإجراءات والوقوعات، ينتفض الرأي العام، المحتقن من ضغوط الواقع، وينتقض غزله، ويتفكك ترابطه، متصورا أن مثل هذه المفرقعات الفارغة قادرة على تحويل المسار، وما هي في حقيقة الأمر إلا تجشؤات من فراغ، لا تقدم، ولا تؤخر ولكن كيف يتأتى لك إقناع الرأي العام، وتبشيره بطول السلامة كما «مربع»؟ وفي ظل التداعيات المزعجة، يحس المقتدر أن التوتر وردود الفعل الانفعالية قد بلغت حداً لا يحسن معه السكوت، ومن ثم وجبت الموعظة: إما للهداية، أو للمعذرة، على حد {مّعًذٌرّةْ إلّى" رّبٌَكٍمً وّلّعّلَّهٍمً يّتَّقٍونّ} ومع هذه الزوابع الكلامية، التي تكاد تحجب الرؤية، ترددت كثيرا في مقاربتها، لأنها زوابع متربية، اختلط فيها الجد بالهزل، والحق بالباطل، واللغو بالسَّبِّ، ومما صعد الشعور بالتردد أن تجربتي مع ذات الكتبة البائسين بؤس مراميهم تجربة سيئة، لا تشجع على مزيد من المقاربات، غير أن ترك الثنيات يتسلل منها الخائضون في سمعة الأبرياء والمتحرشون بالمبادئ بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير إغراء بمزيد من التجاوزات، وكم كان بودي توفر الأجواء المناسبة للحوار المهذب، لنصل بقضايانا إلى بر الأمان.
ومما حفز على القول تنادي الأشباه والنظائر، واتخاذ بعضهم بعضا ظهرياً لمنع المدافعين عن أنفسهم، على الرغم من لغطهم بحرية الرأي، وتكافؤ الفرص، وذلك عين المقت. ومع كل المحاذير والتحفظات، يظل رد المسيئين لغيرهم من الأناسي والقضايا على أعقابهم واجباً عينياً لا كفائياً، وبخاصة حين تمتد الأذية للمبادىء. وإذا قوي المرتاب بارتيابه، فإن على صاحب اليقين ألا يضعف بيقينه. ومتى بادر المهتاج الأعزل إلى النيل من قناعات المقتنع مبتدئاً تعديه، ولم يتهيب من جرح المشاعر، وكان المتأذي قادراً على دفعه، تعين ذلك، ولكن بالتي هي أحسن، دون الإحالة إلى ما يسيء إليه، ودون النفي المتعمد له، أو مصادرة حقه في البرهنة عن وجهة نظره، إذ إن مطارحة الأفكار حق مشروع، ولا يتحصحص الحق إلا بالحوار المتوفر على برهانه وآدابه ودواعيه المشروعة. مع استشعار أن الخطأ ابتداء، لا يحمل على الإدانة. وأن الإصرار عليه بعد ما يتبين وجه الصواب، يقتضي ممارسة الحق السلطوي، فالناس لا يستقيم أمرهم مع الفوضى. ومن تصور أن حرية الرأي تبيح الخوض في كل شيء، والإيغال في أعراض الآخرين، وجب تعليمه بالطريقة التي يفهم من خلالها.
فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً
فليقس أحياناً على من يرحم
|
ومن مات، وليس في رقبته بيعة، مات ميتة جاهلية، وتحمل البيعة تحمل لتبعاتها، ولهذا سميت الولايات بالسلطات، والإيمان بالعقيدة وهي عقد. والواقع في الخطيئة: جهلاً وتأولاً وتعمداً وإصراراً، للمجادلة معه ثلاث حالات:
فإما أن يكون طالب حق، لم يهتد إليه، ومن واجب المجادل أن تهديه سواء السبيل.
أو يكون طالب باطل مصراً عليه، مدركا خطورته أو غير مدرك، ومسؤولية أهل الذكر والحل والعقد أن يبينوا له خطورة مطلبه، فإن امتثل وإلا وجب على السلطة رده إلى الجادة.
أو يكون عاشق أضواء، يريد ان يكون حاضر المشاهد، وحديث المجالس، متقناً انتهاز الفرص المواتية، مستغلاً الظروف العارضة، وواجب الناصحين أن يخاطبوا الدهماء الذين يخلقون بالتفافهم حوله بطلاً زائفاً لا قيمة له، لينفضوا من حوله.
وأيا ما كان الأمر، فإن طائفة من الكتبة يتقنون لعبة الإثارة والقفز إلى بؤر الأضواء، وليس يعنيهم ما يقال بحقهم، ومثل هؤلاء لا يتورعون من الرتوع في الأعراض المصونة، ولا يعفون عن العناد والتعدي والإيذاء، لفقدهم المثمنات واستسهالهم الهوان، والمتعقب لما تتداوله صحف الإثارة من اندفاعات فجة في الدين والسياسة والفكر والأدب والثقافة ينتابه الخوف. فالمشاهد حفية بكل متقول لا يهاب يوم الحساب.
ومشاهد الفكر والسياسة والدين لا تصلح فوضى لا ضابط لها، وتقحم الجهل والمبتدئين ، وأنصاف المتعلمين، ومثقفي السماع إرباك لمسيرة الحياة الفكرية، والواقعون تحت طائلة الأمية التخصصية، يهرفون بما لا يعرفون، ويعولون على نخبوية خاوية، وفهم سقيم للحرية.
والمشاهد الإعلامية لا تخلو أبدا من أناس يستعذبون إثارة الرأي العام، وشد انتباهه، وإرباكه، وذلك بالخوض في مسلماته، دون مصلحة مرجوة، كما لا تخلو من دعاة على أبواب جهنم حذر منهم رسول الهداية. والموغلون في المواقع الحساسة، يعرفون حجم الإساءة، ولكنهم ك «الساديين »الذين يلذ لهم التعذّب والتعذيب، والخطورة أنهم كالمستهمين على السفينة، إن تركوا يخرقون في نصيبهم غرق الجميع. والمهتم بالمثمنات والقيم، يسوؤه أن يخوض فيها من لا يقدرها قدرها، ومن لا يقتدي برسول الهداية واللين والرفق، المراعي للرأي العام، المتجنب لإثارته، والمبقي على المفضول إيثاراً لتهدئة الأمور، وقد فعلها بأبي هو وأمي، حين دخل مكة. والذي لا يعرف خطورة الإثارة، ولا يخشى عواقبها، يظل ناقماً ومنقوما عليه، ولما يزل تتخطفه صحافة الإثارة وقنوات الضرار، معولة على حرية التعبير، وحرية التعبير تتحقق فيما دون القطعيات والثوابت، وفيما دون المعلوم من الدين بالضرورة، وبئست حياة يكرهها شهود الله في أرضه، ويكرهون انبعاثها، وكفى بالمرء عيباً ألا يعرف حدود حضارته، التي هي في النهاية حدود الله، ولا يمكن تصور حضارة أو سلطة بدون خطوط حمراء، ومن تصور الحضارة والحرية بدون حدود فقد ضل سواء السبيل. والتعدي على الحرمات تحت مظلة الحرية، تحفز المهتمين بأمر الجماعة إلى ركوب المكاره، وليس ما أكتبه قصراً على من قال في شأن «الدعوة والدعاة» بغير علم، ولكنه تصد لظاهرة تزداد يوماً بعد يوم، باسم حرية التعبير وحقوق الإنسان، كما تراها الحضارة المادية والمفوضون إلى العقل.
وما أكثر الكتبة الذين يخوضون في قضايا الدين، ويتجرؤون على الفتيا، وينصبون من أنفسهم قادة فكر وأهل ذكر، ولما يعرفوا النص واحتمالاته: الدلالية والثبوتية، أو قطعيتها، ولا قواعد الفقهاء وآلياتهم الاستنباطية، وليس لهم من شفيع إلا أنهم حملوا الشهادات العالية، أو تذبذبوا بين الإيغال في الدين والسياسة بدون رفق، ثم نكصوا على أعقابهم، وبهذا الاضطراب أو الجهل فرضوا أسماءهم كتابا مسموعين، وهم أجهل الناس فيما عدا رسيس تخصصاتهم، وأقلهم وعياً بنواقض الإيمان، ومقتضيات الحضارة التي ينتمون إليها، وأضعفهم فقهاً للواقع. ولهذا تراهم يثورون، ويثيرون، وحين تناصحهم، وتبين لهم إن الذي قالوه محض افتراء، وفرضيات مؤذية، وتعد على الثوابت، يتحرفون لمقولات جاهزة، كالتجهيل والوصاية والمزايدة، ويتحيزون لمشايعيهم كشاعر غزية، معولين على رغبتهم في الإصلاح، وما هم بمصلحين، فالمصلح الناصح يتثبت من الأنباء، ويتبين دقائق الحقائق، ويتحامى إثارة الرأي العام.
ولقد شهد أحدهم بمحض إرادته، معترفاً بمئات الاتصالات، وعشرات الكتابات الناقمة عليه، فهل كل هؤلاء البرمين من التعدي والتجني جهلة، وهو وحده العالم النحرير، والناصح الأمين؟ ولقد سبق لي أن أشرت من قبل، وأنا بصدد الرد على ذات الكاتب إلى من لم يؤصلوا لمعارفهم، ولم يعرفوا ثوابت حضارتهم ومتغيراتها، ومن يغطون افتقارهم متظاهرين بالتشبع بالعلم الشرعي عبر سياقهم لقاعدة فقهية في غير محلها، أو حكماً شرعياً على غير وجهه، أو حادثة عارضة أو دليلاً لا يصح. والأسوأ من هذا وذاك: اختلاف المفاهيم حول حدود الحرية، ومجالات الاختلاف، وحق الاجتهاد. ومن فاته الركب تعجل في اللحاق به عن طريق الحديث عن المسكوت عنه، معللاً تسلقه محاريب العلم الشرعي بحرية التعبير وحق الاجتهاد. والعلماء الناصحون يعرفون حقهم في القول، وحق حضارتهم التي ينتمون إليها، وتأبى كرامتهم أن ينالوا منها، تحت تأثير الحضارات المهيمنة، وأخص خصائص الحضارة «الحكومة المدنية المسلمة» و«الدعوة إلى الله» {كٍنتٍمً خّيًرّ أٍمَّةُ أٍخًرٌجّتً لٌلنَّاسٌ تّأًمٍرٍونّ بٌالًمّعًرٍوفٌ وّتّنًهّوًنّ عّنٌ المٍنكّرٌ} ، ومن قال بالاستغناء عن الدعوة، تعويلاً على إسلاميته أو فطرته، فهو إما جاهل أو مكابر، وكيف يتأتى له ما يريد، والقرآن الكريم استنفر من كل فرقة طائفة، للتفقه في الدين، وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم، وجعل الذكرى تنفع المؤمنين. والمستبرئون لعرضهم ولدينهم هم الذين إذا قاربوا قضايا الدين، حرروا مسائلهم، وحددوا مواقفهم، وأحكموا آراءهم، وفصلوا مقاصدهم. والمخفون من المعارف يعتمدون على الإطلاق والتعميم، لكي تكون أقوالهم حمالة أوجه، وما هي إلا حمالة الحطب.
وإذ يكون الاجتهاد مطلبا إسلاميا، وحقاً متاحاً، يكون من أوجب الواجبات، أن يعرف المقارب له، أنه ممارسة علمية، وأن من ضوابطه: أن يملك المجتهد شرط الاجتهاد، وآلياته، ومتطلباته المعرفية. وعلماءالأصول ذكروا ذلك، وحدودا مجالاته وآلياته وشروطه، ومواصفات المجتهد، ومن أطلق مقولة: «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فاخطأ فله أجر واحد». ثم أتاح الاجتهاد لكل أعزل من معرفة، وخال من ورع، فقد ضل ضلالاً بعيدا. وفوق ذلك، إن الاحتهاد لا يكون إلا في النصوص الحمَّالة. والزمن المأزوم زمن مؤسسات ومجمعات فقهية، تنظر في النوازل، لا زمن مبادرات فردية، وذهاب كل متقول بما اختلق، فذلك مؤذن بالتنازع، وفقد للاعتصام بحبل الله.
والاجتهاد: مطلق ومقيد، من حيث الإجراء والممارسة.
ولهذا يقول الأصوليون: «لا اجتهاد مع النص». والذين يتداولون مصطلح (النص) ثم لايعرفون تعدد دلالاته بتعدد الحقول المعرفية والفترات الزمانية والمذاهب الفقهية والكلامية والفلسفية وبالذات مفهومه عند السلف، يتصورون أن السلف يمنعون الاجتهاد مع وجود أي نص، حتى لقد ظهرت مصطلحات «العقلانية» و«أهل الرأي» و«الظاهريين» و«النصوصيين» مع أن كل هذه الطوائف تستخدم العقل والفكر، ولكن بطرق متفاوتة، وفات المتقولين على السلف. أن «النص» الذي ليس معه اجتهاد، يعني القول الذي لا يحتمل إلا دلالة واحدة، مثل «لا إله إلا الله» فهذا نص لا يحتمل إلا دلالة الوحدانية المتفردة، ومن اجتهد في تحميل النص دلالة «تعدد الآلهة»، فقد خالف القاعدة «لا اجتهاد مع النص». ويقال مثل ذلك في أمر «الدعوة إلى الله» و«الحكومة الإسلامية»، والله يقول: {أّفّحٍكًمّ الجّاهٌلٌيَّةٌ يّبًغٍونّ} و{وّأّنٌ احًكٍم بّيًنّهٍم بٌمّا أّنزّلّ اللهٍ} و{وّمّنً أّحًسّنٍ مٌنّ اللّهٌ حٍكًمْا}. والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قٍلً هّذٌهٌ سّبٌيلٌي أّدًعٍو إلّى اللهٌ عّلّى" بّصٌيرّةُ أّنّا وّمّنٌ اتَّبّعّنٌي}. ويقول: {ادًعٍ إلّى" سّبٌيلٌ رّبٌَكّ} و{وّذّكٌَرً فّإنَّ الذٌَكًرّى" تّنفّعٍ المٍؤًمٌنٌينّ} و{وّادًعٍ إلّى" رّبٌَكّ} و {فّلٌذّلٌكّ فّادًعٍ وّاسًتّقٌمً} و{وّلًتّكٍن مٌَنكٍمً أٍمَّةِ يّدًعٍونّ إلّى الخّيًرٌ} و{وّمّنً أّحًسّنٍ قّوًلاْ مٌَمَّن دّعّا إلّى اللّهٌ}. }. ومع أن الدعوة سبيل المؤمنين، وأحسن القول، ولا مجال للجدل حول مشروعيتها، فإننا نسمع، ونرى مجازفين، يغثونك بتقولات غير مسؤولة، وتعميمات غير محددة، لا يحكمون، ولا يفصلون، بحيث يزيلون اللبس، ويمنعون عن أنفسهم قالة السوء، ويحولون دون البلبلة، وتصعيد العداوات. ولهذا تراهم يخلطون متعمدين أو جاهلين بين المبدأ والتطبيق. فالدعوة مبدأ، وهو أحسن القول بشهادة الله، والتطبيق ممارسة بشرية لها وعليها، ولكن لحن القول، وتوجيهه يطال المبدأ، كقول أحدهم: «وتساعد المناهج نفسها هؤلاء على أن يكونوا دعاة» إضافة إلى خروج الكاتب من التعليم إلى برامج وزارة الشؤون الإسلامية ومعارضها ومهرجاناتها، وإلى شركة الكهرباء وإسهاماتها. ولو أنه وقف حيث يكون خطأ التطبيق لحمد الناس له ذلك، وأذعنوا له، ولاسيما أننا نعاني تجاوزات مشهودة، ومعاشة في التطبيق الدعوي. والوزارة المعنية لما تزل تتعقب كل مخالف لمناصحته أو منعه. وإذ لا يخلو أي مجتمع من نوعيات تتقن لعبة الإثارة، فإنك لا ترى هذه النوعيات إلا حيث تكون الريبة، متكئة على آراء في غاية الفجاجة والاستفزاز والتسرع، منقبة عن المسلمات، موغلة في المتشابه، غير متحرجة من موضعة كل شيء، متقحمة أي محظور متناغمة مع الحرب المشبوهة على مناهج التعليم في المملكة، معطية للمتربصين بنا فرصة ذهبية، مقدمة شبهة يلتمسها أعداء الأمة. وهل بعد القول: «فقد اصطبغت الكتب الدراسية جميعها بصبغة دينية، فلا تدرس مادة اللغة الانجليزية مثلا لذاتها بل لتكون وسيلة للدعوة الى الله» من تجن مؤذ.
للحديث صلة
|