من يتبنى شعارات النبل والطهارة في السياسة ويدعو لاسترداد حق مغتصب عبر شرعية القانون الدولي فقط، أجدى له أن يذهب إلى مدرسة للفنون الجميلة ويدع السياسة. كذلك من ينكر أهمية الأخلاق والشرائع الدولية داعياً إلى صراع دائم مع الخصوم ويرفض الحوار السياسي والحضاري خير له أن يصارع الثيران ويدع السياسة أيضاً.
في تقييم العامل الخارجي أوالتعامل مع الأجنبي، يسيطر الشعار الصاخب والبطولات اللفظية والجمل الحقوقية على التحليل والموقف السياسي لدى قطاع كبير من المثقفين العرب. بينما السياسة فن مناور وعلم دؤوب للعبة واقعية معقدة يتداخل فيها القانون بالقوة، والصدق بالمراوغة.. ويتفاعل هذا التداخل على قاعدة توليفة من المصالح المرحلية قصيرة الأجل والمصالح الاستراتيجية بعيدة المدى وما يتبعها من تبدُّل الصداقات والعداوات وتقاطع المنافع بين خصوم الأمس، وإذا كانت السياسة الواقعية بهذه الصورة فإن المثقف العربي النمطي الذي يرزح تحت هواجس المؤامرة وأحلام اليقظة قد يغوص في عالم من نرجسيات الجماعة المنغلقة على ذاتها، والأحلام الكابوسية التي تصور الحلول بمعجزات خيالية استئصالية منها الانعزالي ومنها الصدامي ومنها الانتحاري، أو قد يضطر للحفاظ على الشعار أو المصالح الشخصية إلى الانتهازية المبطنة ليغدو بوقاً لأحد الأنظمة التي تدافع عن الشعارات فقط دون محتواها.
إزاء هذا العالم الواقعي المليء بالاضداد فإنه يصعب على شطر واسع من هؤلاء المثقفين ان يتفاعل مع القضايا المستجدة إلا من باب القاء اللوم على الآخرين، ورفض النقد الذاتي عبر الانفعال السلبي من الجديد والتوجس من مؤامرة الآخر المتفوق حضارياً.. فالتكنوولجيا المادية تفاهة وتغييب للروح، ومعلوماتية ما بعد الحداثة تغريب للإنسان، والرقميات الالكترونية تسطيح للمعرفة، والعولمة تضييع للهوية، والخصخصة مؤامرة رأسمالية، والشركات العابرة للقارات هيمنة امبريالية.. وكل ما هو قادم شر مستطير وفتنة عارمة.. ولأن أمريكا تقود العالم «الما بعد الحداثي» فهي أس المصائب فهي أس المصائب.. ولأن أمريكا كذلك فهي صهيونية.. رغم أنه أحياناً ينقلب الخطاب وتصبح اسرائيل صنيعة أمريكية.. طبعاً، العقل ليس مهماً هنا بقدر العاطفة!!.
رؤية الأبيض والأسود دون كل ألوان الطيف السياسي هو ما تدركه تلك البصائر أو ما تصر على رؤيته فقط. مثلاً طرح أحد المفكرين في أمسية ثقافية مسألة الوجود الأمريكي في العراق باعتباره أحد أمرين: الأول أن أمريكا بغرض انهاء التهديد العراقي لها أتت بكل حقد صليبي صهيوني لتدنس وتبقى على أرض العراق ملغية حدوده من الخريطة، ومستترفة طاقاته، وناهبة لثرواته، ومدمرة ثقافته ومنجزاته العلمية، ومهمشة شعوبه ومهدرة كرامته.. ساحقة بجنازير دباباتها كل من يعترض طريقها لكي تنتقل لما بعد العراق حتى تعم المنطقة كلها، الثاني: أن أمريكا جاءت كملاك رحمة لتزيح نظام مستبد جثم على كاهل الشعب العراقي ثم تقفل راجعة من حيث أتت وتترك بكل حسن نية لهذا الشعب خياراته وخيراته يتصرف فيها كيفما شاء.. هل هذا تحليل سياسي جاد أم مقطع من حكايات ألف ليلة وليلة؟.. وبناء على ذلك ليس أمامنا إلا مصادمة المشروع الأمريكي بكل تفاصيله، حسب توصيات أبو زيد الهلالي، أو خيانة أنفسنا وأوطاننا.. حسناً، ما هو العمل الفعلي لمجابهة هذا المشروع المرعب؟ لن تجد الجواب الشافي، إلا اللهم عبر ثقافة الشتم والعنف وحالة الانعزال والاستئصال وتمجيد نظريات المؤامرة ونداءات غير قابلة للتنفيذ، دون تعامل حاذق مع الممكن أو مع الهامش الواقعي المتاح أو ايجاد آليات فعالة للمواجهة.
ويعلق مفكر آخر بأنه شرف لنا نحن العرب من بين كل شعوب الأرض أن نكون رأس الحربة لمجابهة المشروع الأمريكي.. نحن وليس الصين وروسيا وفرنسا وألمانيا التي تمتلك بعض أدوات المجابهة، بل نحن الذين لا نملك الحد الأدنى للمواجهة غير ارادة المقاومة والكرامة التي تأبى كل ضيم. وهنا نتسأل: هل فعلاً الكرامة وارادة المقاومة وحدهما دون أدوات مادية تكفيان لمجابهة طغيان الأجنبي؟ ألاّ نتعلم الواقعية والمناورة والاستفادة من تقاطع المصالح في تعاملنا مع الخصوم الجبابرة؟ ألا نعطي قليلاً من التنازلات لنحصل على بعض المكاسب، أو لتقليل الخسائر التي تتراكم علينا سنة بعد أخرى؟ ألا نحتاج إلى السياسة بمعناها الحاذق؟.
هكذا.. أبيض وأسود ومن يدخل في المنطقة الرمادية الطبيعية ليس سوى محام للشيطان،ومرجف أو متخاذل جبان إن لم يكن عميلاً حقيراً.. قليلاً من البراجماتية السياسية يا سادتي المثقفين الأشاوس.. قليلاً فقط!! ألم نستفد من قرن مليء بهزائم تترى.. كل هزيمة أسوأ من سابقتها.. من مراحل مليئة بالعناد والمكابرة ومناكفة الخصوم عبر المبادئ، فيما هم يردونها علينا بكل تفوق حضاري عبر الصواريخ والدبابات والعلم والعمل والمال والتنظيم والاعلام والديموقراطية الخاصة بهم..؟ هل يرغب مثقف أن يزج بنا في مجابهة انتحارية مثلما فعل الطالبان ونظام صدام!؟ هل ينبغي أن نعرض منجزات بلداننا مهما بدت بسيطة إلى الدمار وهلك الحرث والنسل!؟ أم نجابه أمراضنا العربية حيث يفرخ الاستبداد تيارات ظلامية لا تتقن غير لغة التطرف والعنف والاستئصال الداخلي قبل أن تحارب الأعداء، ناخرة أسس بنياننا الحضاري؟..
في قصصنا الشعبي يروي أن عنترة بن شداد بكل سطوته وجرأته آثر الحكمة وسياسة المراوغة في مواجهة الثور، كما في قوله: «وش يدري الثور إني عنتر!!».
|