يقول المثل القوقازي «من يفقد وطنه يفقد كل شيء» وقد فقد العراقيون وطنهم منذ أن ساد الاستبداد الصدامي لأكثر من ربع قرن طاحناً فيه شعبه في أتون ثلاثة حروب إقليمية ومشردا أكثر من أربعة ملايين عراقي بمن فيهم من أدمغة لامعة.
وقد رسا عطاء توطين الديمقراطية في العراق على عاتق المقاول الاجتماعي العالمي الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية ولبست الديمقراطية الغربية الأمريكية وشاح العسكر من أجل تحقيق مصالحها وجنحت في تسوية قضاياها مما جعل الأمريكان والانكليز يقفزون فوق خنادق الموت للوصول إلى غاياتهم في حربهم الكونية على الإرهاب وذهبوا للحرب منفردين ودون مظلة الشرعية الدولية لحرق فيروس طغيان وخطر النظام البعثي في العراق مما أقحم أطراف الحرب في لعبة البقاء فوق الجثث العراقية. ولو وظفت أموال الحرب في مكافحة فيروس السارس (الالتهاب الرئوي اللانمطي) لكان ذلك عطاء أفضل للأنجلو أمريكان للبشرية.ينص منطق الدبلوماسية على أن «من يبدأ الحرب يُثبت عدم جدوى سياساته وصدق نياته» ولكن الولايات المتحدة الأمريكية زلت قدمها في أتون الصراع في المنطقة لتكون طرفاً أساسياً بعد ان نصبت نفسها حاكماً وقاضياً وجلاداً ومحرراً وراعياً للسلام في الوقت نفسه.
إن الديمقراطية مصطلح مرادف للمجتمع المدني والسلام لم يكن يوما غاية ندركها بالحروب وإذا كان البلدوزر الأمريكي قد أتى لمنطقة الشرق الأوسط بهدف إصلاح التربة السياسية وبذر بذور الديمقراطية فإن سياسة الكيل بمكيالين وبوجود ترسانة نووية تقدر بأكثر من 400 قنبلة نووية في حوزة اسرائيل لن ترجح كفة السلام في المنطقة، فأنت يمكنك ان تذهب للحرب منفرداً وتنتصر وحدك ولكن لا يمكنك ان تظفر بالسلام وحدك.
والمواجهة الدبلوماسية الأوروبية الغربية الحادة متمثلة بفرنسا وروسيا وألمانيا ضد حملة الولايات العسكرية على العراق كانت تتعلق أساساً بالتعددية القطبية في العالم وبدور الأمم المتحدة ومجلس الأمن لإرساء السلم العالمي وإعطاء معنى شاملاً وحقيقياً للشرعية الدولية وللقيم الأخلاقية والإنسانية للحؤول دون الهيمنة الأحادية الأمريكية. وعلى الرغم من التباين البارز ولكن بعد انتصار الحملة وانهيار نظام صدام فقد بدأت تميل التصريحات الأوروبية التي كانت معارضة للمصالحة والتأكيد على اقتسام كعكة العراق تحت سكين الأمم المتحدة وليس سكين أمريكا لوحدها وعلى الرغم من ان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش كان قد قال «إن بناء العراق سيحتاج إلى دعم الخبراء من المجتمع الدولي ونحن نلتزم بالتعاون والعمل مع المؤسسات الدولية بما فيها منظمة الأمم المتحدة التي سيكون لها دور حيوي في هذه المهمة» فإن أمريكا التي صرفت ميزانية تبلغ 100 بليون دولار سوف تعمل جاهدة على تحصيل فواتير الحرب من مخزون العراق الذي يربو على 160 بليون برميل نفط حسب تقدير الخبراء الذي يكفي ل160 سنة بمعدل انتاج 3ملايين برميل يوميا (كما يقدر احتياطي الغاز الطبيعي ب 110 تريليون قدم مكعب) وإذا ما ثبت سعر البرميل الواحد عند 28 دولار أمريكي فإن العراق يلزمه 5 سنوات لتسديد فاتورة الحرب ولعل الحرب على العراق كانت بالنسبة للأمريكان حصان طروادة الأمريكي لاختراق منظمة الأوبك للتحكم مستقبلاً بتقلبات سعر البترول العالمي الذي يشكل عصب الصناعة والتكنولوجيا الغربية.عينت أمريكا بعد أحداث 11 أيلول دول محور الشر والدول المارقة في قاموسها وهي تعمل منذ ذلك الوقت على تفكيك هذا المحور أو مواجهته فبدأت في أفغانستان والآن في العراق، واستطاعت القدرة المتطورة لآلة الحرب الأمريكية والعقيدة العسكرية لصقور إدارة بوش تقدير حجم فقاعة القدرة العسكرية لصدام وعلى الرغم من الحجج الواهية لغزوه بامتلاكه أسلحة دمار شامل إلا ان أحداً لم يكن يتوقع ان تزول فقاعة صدام وينهار نظامه بين ليلة وضحاها هارباً تاركاً شعبه يتخبط بين لجج الفوضى والفقر بعد ان جفف منابع الأخلاق وموارد العراق لعقود ثلاثة.
لم يستطع صدام ان يستثمر ولاء شعبه المزيف للدفاع عنه وسرعان ما تحولت الأيدي التي كانت تصفق عند سماع اسمه إلى أيد تصفق وجهه في صوره، وصدام كان طاغياً وأرسى حكمه على أنقاض مجتمع الخوف الذي أنشأه بأجهزة أمنه ولم يكن يتوانى عن رش شعبه بالكيماوي وكأنهم ذباب بشري ولكن زال حكمه كالزبد الذي يذهب جفاء.
لم تستطع مدافع الرأي العام ان تلجم إصرار ومتابعة الأمريكان وحلفائها في المضي قدما باتجاه تحرير العراق على الرغم من كل الألغام السياسية والمخاطر العرقية المتوقعة الناجمة عن لا شرعية الحرب وانهيار النظام العراقي. وقد غاب عن الرأي العام العربي ان الاستبداد هو أفضل حليف للاستعمار وأنه إذا كنا نخشى الوحش فليس علينا على الأقل ان نصادق طريدته. وكانت لا شرعية الحرب هي ورقة التوت التي تستر عورة المواقف. ولم يصحو العرب من الإدمان على الفشل إلا يوم بدأت تماثيل وأصنام صدام وبسلاسل ومجنزرات الأمريكان تسقط على الأرض معلنة نهاية حقبة الاستبداد للدخول مرحليا في حقبة فراغ السلطة.
ينبئنا التاريخ بأنه لايسود حكم على حقد أو كراهية أو فقر مهما طال ويعج تاريخ أرض الرافدين بقصص توالي سقوط أنظمتها منذ أمد بعيد بدءاً بمملكة سومر ومن ثم حمورابي فالحثيون والآشوريون ومن ثم الكلدانيون وبعدها الغزو الروماني ومن ثم الحكم الامبراطوري الفارسي وبعدها الفتح الإسلامي حتى اجتياح المغول والتتار ومن ثم الاحتلال العثماني وبعدها الانتداب البريطاني حتى مجيء الاستقلال وحقبة الانقلابات إلى ان تبوأ صدام سدة الحكم بعد ان أعدم العديد من رفاق الثورة البعثية. ووفق المعايير العسكرية فإن الحرب على العراق تعتبر من أقصر الحروب وأقلها تكلفة بشرية فحسب تصريح قوات التحالف فإن الإصابات الأمريكية نتيجة الحرب بلغت 87 قتيلاً و 419 جريحاً و 11 مفقوداً وبالنسبة للبريطانيين بلغت 8 قتلى و 74 جريحاً وبسبب الحوادث قُتل 15 أمريكياً و22 بريطانياً بينما بلغ عدد القتلى العراقيين 2320 عسكريا و 1252 مدنيا وعدد الجرحى 5103 وعلى الرغم من ان صدام كان قد دعم بناء جيشه الجمهوري العرمرم الذي كان مهمته حماية كرسي السلطة من الشعب ودرء الأخطار عنه إلا ان أول من سقط وسلم الراية البيضاء كان الحرس الجمهوري نفسه الذي لم يبد مقاومة تذكر فالجيش ابن بيئته فنظام الشاه في إيران الذي كان يملك أحد أكبر جيوش العالم سقط بثورة الكاسيتات كما تُدعى دون ان يقمع الجيش الثورة الشعبية وصدام على الرغم من إنشائه لمارد أمني بين أتراب شعبه إلا أنه وعندما دق ناقوس الخطر الخارجي انهار جهاز الحماية وانقلب السحر على الساحر واليوم بزوال شبح دكتاتورية صدام فإن المنطقة مقبلة على مواجهة رياح التغيير الغربية وتصدير ديمقراطيتها. لذلك بدأت أمريكا بطرق باب سوريا وأخرجت ملفين لها الأول القديم وفيه دعم سورية للإرهاب المتمثل باستضافتها لمنظمات حماس والجهاد وحزب الله والوجود السوري في لبنان والثاني الجديد الساخن وهو ما حصل في العراق من نقل مواد عسكرية وشبه عسكرية عبر الحدود إلى الأراضي العراقية وإيواء كبار الضباط العراقيين من نظام صدام ويعلق عضو الكونغرس الأمريكي ستيني هوير من ماريلاند (إن أمريكا لايمكنها ان تشعل الحرب باستمرار ولا يجوز لها أن تحارب كل العالم) ومع ذلك فهو يرى أنه على سوريا ان تجري تغييرات في سياساتها.فالمنطقة مقبلة على خارطة الطريق وملامح مرحلة للسلام وفق سيناريو صهيوني واخراج أمريكي.
|