مكانة أوروبا في النظام العالمي تغلفت بالإلحاح والجدل الذي ثار في باريس مؤخراً. وقد التقى وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي بصورة غير رسمية للتباحث حول موضوع علاقات أوروبا الحالية والمستقبلية مع الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن الروابط التي تربط الكتلتين تعتبر أساسية - لكن كلا الجانبين يرفض التسليم بحقيقة أن علاقات القوى الجيوبوليتيكة تعمل عن جد، فقد رفض رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الطرح القائل بأن أوروبا قوة مستقلة ذات سياسة خارجة مختلفة عن تلك التي تنتهجها الولايات المتحدة. إلا أن بلير يمكن فقط أن يصل إلى «قطب أوحد» مؤلف من أوروبا- أمريكا إذا أصبح الاتحاد الاوروبي تابعاً لواشنطن تماماً مثلما جعل هو بلاده تابعة لإدارة بوش. في تلك الحالة سيكون أفضل وضع لاوروبا أن تتمكن من التأثير على الولايات المتحدة التي تقاوم بشدة أن تقع تحت أي تأثير أوربي.
الادارة الامريكية لا تقبل علاقة تحالف تختلف عن علاقة السيد بالتابع، هذا هو كل ما في الأمر حول «عقاب» فرنسا وألمانيا وبلجييكا. لقد اعتبر رجال الرئيس جورج دبليو بوش معارضة أوروبا الشعبية والرسمية للحرب على العراق مؤشراً على أن سياسية خارجية أوروبية مشتركة قد تمثل قيوداً على حرية عمل الولايات المتحدة وسوف يعملون كل ما بوسعهم لمنع ذلك، ولديهم عذرهم ليكونوا قلقين من الاتحاد الاوروبي فهو القوة الاقتصادية والسياسية الوحيدة المكافئة للولايات المتحدة، وأي محاولة لانكار أو تجاهل هذا سوف ينجم عنها متاعب وانقسام في أروقة الاتحاد الاوروبي بينما سيزود القوى السلبية التي تعمل الآن في أمريكا بالمزيد من الوقود.
حكومة بوش قامت بعمل وقفة تأمل مع النظريات الكبرى والممارسات السياسية الخارجية للولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب. الأمم الاوروبية أعرق وأكثر ثقافة وثراء من أن تقبل الهيمنة الامريكي، ولهذا سوف يتعين على الاتحاد الاوروبي أن يأخذ ذلك في الحسبان إن آجلاً أم عاجلاً.
إن هذه الحكومة الامريكية في العراق في فترة ما بعد الحرب مسممة بمفهوم الهيمنة الامريكية، وقد تثبت المقاومة الحالية لنموذج إدارة بوش حول المصير المعلن «للعراق» في النهاية انها بنفس قدر الأهمية الذي كان عليه الهدف النهائي التنموي للاتحاد الاوروبي، تماما مثلما كانت أهمية مقاومة روسيا للحلف الاطلنطي. وليس هذا نموذجاً موازياً مشابها نصوغه لكننا نحاول هنا أن نواجه الحقائق. وهناك طريق غير مستفز يمكن أن يطرح على الاتحاد الاوروبي للتأثير على مسيرة الامريكيين فيما يحافظون على مصالحم الخاصة، وهو ان يقوم هؤلاء بدعم القوة الاقتصادية الاوروبية ودفع البحث في مجال التكنولوجيا الفائقة والتنمية، وهما المنطقتان اللتان وصلت فيهما أوروبا إلى مرحلة متقدمة بالفعل.
وهناك ميزة أخرى لدى أوروبا تتمثل في «القوة الناعمة» الدبلوماسية والسياسية التي تمتلكها، إلا انه من الثابت من خلال التجربة التاريخية أن المشروعات المشتركة مع الحكومات الامريكية والمؤسسات الصناعية الامريكية كانت دائما مرتبطة بمتطلبات الأمن الامريكي القوية التي كانت دائما ما تجبر الشركاء الاوروبيين أن يتبعوا قواعد تجعلهم تابعين. وتعد الفوضى العسكرية الحالية في أوروبا بمثابة فضيحة بالنظر إلى المبالغ التي انفقتها الدول الأعضاء، إلا ان النمو العسكري الشامل لصالح الولايات المتحدة كان يسمح لها بهامش ضيق جدا للقوة، لأن ازدياد قوة أوروبا العسكرية عن الحد المسموح لها كانت دائما تقابل بمقاومة أوتوماتيكية وتثير مخاوف الولايات المتحدة. ومع هذا فقد تكون للقوة العسكرية الامريكية آثار تدميرية هائلة في النهاية، لتثير أزمة أكثر من الاستقرار والتعاون الدولي. وهكذا يتعين على الاتحاد الاوروبي أن يتعامل كعنصر مستقل وقوة حكم ذاتي «مدنية» فيما يختص بالشؤون الدولية، مدافعا عن المبادىء الكلاسيكية حول التوازن في العلاقات الدولية وعن أحدث المفاهيم حول «الحكم» المتعدد الاقطاب للعالم. ولأن ذلك الاختيار يمثل الواقعية، فسوف يكون في مصلحة الجميع في النهاية، والاستمرار في السياسات الامريكية الحالية من دون أن تواجه تحدياً قد يسفر عن آثارمدمرة ومستمرة ليس فقط على العلاقات الامريكية ولكن على الحريات المدنية الامريكية، التي تضررت بالفعل بسبب «الحرب على الإرهاب».
* «انترناشيونال هيرالد تربيون»
|