في تلك الحرب الظالمة الباغية الجائرة على العراق، والخارجة عن الشرعية الدولية، والرافضة للرأي العام العالمي.. ومنذ الطلقة الأولى من قذائفها الأمريكية البريطانية على عاصمة الرشيد «بغداد» قلعة الأمجاد، وسفر التاريخ الطويل.. المتسع بالحضارات والآثار الشامخة.. لم يكن أحد من المراقبين العقلانيين يتوقع غير تلك النهاية المؤسفة.. التي آلت اليها الأمور في العراق.. للمبررات والأسباب الكثيرة.. التي فرضها للأسف الشديد.. واقع الأمة العربية بشكل عام.. وواقع القيادات البعثية في العراق الجريح بشكل خاص، حيث لم تحسن تلك القيادات في مسيرتها بقيادة زعيمها المستوحد المستفرد التعامل في تطبيق ما تحمله من نظريات في واقع العمل القطري في العراق والعمل العربي المشترك.. حيث فقدت الرؤية الصحيحة والسليمة في سياسة البناء الداخلي في العراق.. وفي العلاقات العربية والدولية والعالمية..
وارتفعت بذاتها منفردة نحو الآفاق البعيدة.. قبل أخذ الاستعدادات الكافية لها، وقبل بناء الأجنحة القوية التي تحلق بها نحو تحقيق أهداف القومية العربية والاسلامية التي تتخذ منها ستارة كثيفة، تمرر من خلالها بموجات مشروعة وغير مشروعة.. حتى وقعت الفأس على الرأس كما يقول المثل العربي.
ولست هنا بصدد الحديث عما جرى.. ويجري في تلك الحرب المدمرة.. لأنها أمور خرجت عن المألوف.. وتعدت حدود العقل والمنطق.. من طرفي النزاع - التحالف الأمريكي - البريطاني من طرف..
والقيادات البعثية العراقية من الطرف الآخر.. فكانت الضحية الشعب العراقي.. الذي يتجرع اليوم آلام ومصائب وويلات تلك الحرب الظالمة وأصبحنا نراه تائهاً بين نارين. وكل واحدة أقسى وألعن من أختها.
وكما قلت: ليس هذا ما عنيته في تلك الخاطرة، وليس الخوض في مثل تلك الأمور من تخصصي، ولا من متابعاتي، إيماناً وتصديقاً مني بعدم الجدوى، وعدم الفائدة من رفع الصوت في أمرٍ خطير وكبير، وقع من قوة باغية طاغية، تنصب اليوم نفسها، وتفرض ارادتها.. على الأمم والشعوب، وعلى المنظمات الدولية، والرأي العام العالمي.. مُلغية من قواميسها كل الأعراف وكل العهود والمواثيق الدولية. وكل المثل والأخلاق والعدالة الانسانية التي كانت تقمعها وتوهم العالم بحملها وحمايتها.
غير ان الشيء الذي لفت انتباهي، وأثار مشاعري، في هذه الحرب الظالمة الباغية، هو ترسيخ مفهوم سقوط «بغداد» في الاعلام العربي والدولي، حتى أصبحت تلك الكلمة هي المنطلق الوحيد للتعبير عن قسوة ما يعانيه الشعب العراقي من ظلم، وقتل، وهدم وتدمير وتشريد وعبث مجنون بمقدرات هذه الأمة وتاريخ وحضارة هذه العاصمة المشرق بمختلف الحضارات وأجمل الآثار الاسلامية والعربية الخالدة.
فلقد أصبحت كلمة سقوط «بغداد» الصفة البارزة في ثقافة تلك الحرب الجائزة. وبغداد تلك العاصمة التاريخية ذات الجذور الراسخة في أعماق التاريخ.. لم تسقط.. ولن تسقط.. ففيها من القدرات والامكانات، وفيها من الدروس والخبرات التي مرت بها عبر العصور الماضية..
ما يمنع سقوطها ويحميها من السقوط ويعيد لها مجدها وكرامتها كعاصمة تاريخية لقطر عربي شقيق.. وقلعة حصينة من قلاع الحضارة العربية والاسلامية.
بغداد.. لم.. ولن تسقط.. ففيها شعب عظيم.. فيها شعب قوي صلب استمد قوته من كنوز العلم والمعرفة، التي تمكنه من الثبات، كالجبال الراسيات.. أمام أعاصير الظلم والطغيان.. التي مرت، وتمر به الآن.. وما الحجاج بن يوسف.. الذي هدد العراقيين، يوما وتوعدهم قائلاً:«إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لقاطفها».
ليس عنا اليوم ببعيد.. وبوش.. وبلير.. وأعوانهما يقطفون بالفعل لا بالقول.. رؤوس الآلاف من العراقيين ويهدمون حضارات وآثار العراق العربية والاسلامية.. وذهب الحجاج وذهب الظلمة من أعوانه معه ولم تسقط «بغداد» واليوم يعيد التاريخ نفسه.. فلن تسقط «بغداد» وإنما الذي سقط هو حزب البعث الحاكم فقط وصدام حسين وأعوانه فقط، وسقط لأنه يستحق السقوط، حينما طغى وتجبر وتكبر فاستغل التحالف الأمريكي البريطاني هذه الفرصة.. لينحر حكام العراق في مخابئهم. وعلى جنبات أسوار بغداد» وينفرد بلحم الجزور الميت لوحده. غير هياب ولا وجل من أخلاق وأعراف ومبادىء وعقائد ذات عروق عميقة في تاريخ وحضارة هذه القلعة الشماء في سماء الوطن العربي «بغداد» العراق العظيم عاصمة الرشيد.. وعروس الرافدين دجلة والفرات.
أقول إن بغداد لم تسقط، ولم يسقط تاريخها على الرغم من الجراح العراقية التي أوقعها العدوان عليها، فبغداد العراق.. عاصمة ودود ولود يشهد لها بذلك تاريخ عبر العصور.. على الرغم مما أصابها.. وعلى الرغم مما نُسج ضدها من مؤامرات وأحلام مشبوهة.. ذات أطماع استعمارية غير محدودة - وإنما الذي سقط هو حزب البعث الحاكم فيها ومعه صدام حسين.
أما بغداد والبصرة والموصل وكركوك وكربلاء وأربيل والنجف الأشرف، وجميع مدن العراق العربي الصامد، فهي باقية راسخة، باقية بتاريخها باقية بحضارتها، باقية بمفكريها، وعلمائها، باقية بأدبائها وشعرائها، باقية برجالها وجامعاتها وعلومها وآثارها.. ولن تضرها عاصفة هوجاء مدمرة تمر اليوم معها.. فليست هي الأقوى فيما مرت به من حروب ومحن أكثر مما هي اليوم ومع ذلك بقيت «بغداد».. فلا تقولوا سقطت «بغداد» وإنما قولوا سقط حزب البعث الحاكم في بغداد وسقط نظام صدام حسين، أما بغداد فستشفى من مرض..
وستلملم جراحها وستنهض من كبوتها وستعود الى حياتها الطبيعية حرة كريمة في أحضان الأمة العربية والاسلامية، إن عاجلاً أو آجلاً..
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
|