لأسباب لها علاقة بطبيعة البشر، يسهل على الإنسان ملاحظة تأثيرات التحولات الزمنية في البيئة أو المجتمع أو المؤسسة التي يغيب عنها طويلاً، ولكن يصعب عليه ادراك المتغيرات التي تطرأ على تفاصيل مؤسسته أو مجتمعه أو مدينته التي يعيش فيها أو يعمل بها منذ زمن طويل، والتي قد تبدلت وانتقلت من طور لأخر، وطوت عجلة الزمن منها صفحات وفصولاً من التقاليد، وتجاوزت محطات وأفكار لم تعد ذات تأثير على المجتمع كما في سالف الأيام، وفي عالم تتابع فيه الأحداث والمتغيرات، ويتزامن فيه الفشل والنجاح، ويتفجر خلاله توالي المفاجآت.. ولابد أن يأتي التغيير يوماً، والمتفوق هو من يتوقع حدوثه كأحد ظواهر الحياة الطبيعية، واذا هبت رياح التغيير، لن يكون في قدرة أحد ايقافها أو ارجاع اتجاه حركتها الى الوراء.
والطبيب سبنسر جونسون حاول تشخيص ذلك الموقف، فكتب رواية أطلق عليها «من حرك جبني»، وقدم خلالها رؤيته عن أزمة التغيير، لأولئك الذين يؤمنون أن الغد ليس إلا امتداداً لحال الأمس وواقع اليوم، والقصة تحكي مغامرة أربعة شخصيات، فأران وقزمان، دفعتهم ظروفهم للبحث عن «الجبن»، والذي كان رمزاً للثروة والاستقرار والنجاح في الرواية، وراح المؤلف يصور خلالها ردة الفعل الفطرية لفأرين عندما يأتي التغيير، ومقارنتها مع طريقة تعامل البشر التحليلية وحساباتهم الخاطئة لمقاومة التغيير الضروري عندما تظهر العلامات والدلائل الدالة على وقت حدوثه، والتي صورها في الرواية قزمان، عبرا عن تلك العينة من البشر التي لا تملك شجاعة الانسان المتطور والقادر على مواكبة التغيير، والقصة واحداثها الواقعية لها تطبيقات وأشباه كثر في حياتنا اليومية، فقد نجدها في نظام المؤسسة أو منهج المدرسة أو ادارة المستشفى أو أي تجمع بشري..، أو حتى في تقاليد ومفاهيم سادت ثم فقدت معانيها.
وبالرغم من اختلاف الطرق المستخدمة في البحث عن الثروة، نجحت الشخصيات الأربع في العثور على «الجبن» الذي يعد شريان الحياة وعامل البقاء الرئيسي لكثير من الكائنات في بيئة تلك الرواية الرمزية، لتصبح عائدات الثروة «الجبنية» المصدر لحاجاتهم اليومية ولمشاريعهم واستقرارهم في الحاضر، لكن سلوكيات الشخصيات الأربع اختلفت في التعامل مع الثروة، فالفأران بسبب نزعتهما الفطرية، يستيقظان مبكراً ويذهبان إلى الجبن، حيث الغذاء ومصدر الأمان، واعتادا لا شعورياً ربط الحذائين حول عنقيهما كاستجابة لغرائزهما الفطرية، وليكونا دائماً في وضع استعداد، يمكنهما من الانطلاق إذا دقت ساعة التغيير، وبالفعل.. عندما بدأ المخزون يتناقص، كان الفأران على هبة الاستعداد للانطلاق بعيداً في طرق البحث عن بديل،.. ولم تطل فترة البحث، حتى تمكنا من التكيف مع ظروف الوضع الجديد، ومع متطلباته ودرجة متغيراته، إلى أن وجدا ما يغنيهما عن «الجبن» الذي فقد اهميته الاستراتيجية وتأثيراته على حياتهم.
بينما اختلف سلوك القزمين البشري عنهما، إذ تراخت قواهما ودرجة استعدادهما، واعتادا بسبب حساباتهما الخاطئة، ان يخلعا حذاءيهما بعيداً، ثم الاسترخاء بجانب الجبن، والاستمتاع بملذاته وبمشاعر السعادة والأمان بالقرب منه، ومع مرور الأيام وتكرار الروتين فقدا لذة المتعة والراحة الجسدية، لكنهما أصبحا يعيشان في يقين لا يحتمل الشك، مضمونه ان الثروة الجبنية ستكفي حتى نهاية العمر..! لذلك ربطا مصالحهما به إلى الأبد، وأصبح مصير حياتهما متعلقاً بموارده، لتسود مشاعر الثقة والاطمئنان، وتصاب ردة الفعل الفطرية عندهما بالخمول والذهول، وتصبح الظروف المحيطة باكتشافه، والعوامل التي حرضتهما للبحث عنه في ملف النسيان، لذلك عندما أخذ مخزون الثروة الجبنية في التناقص، وبدأ الإنتاج يفقد مفعوله السابق، لم يدركا ذلك، فحافز العمل وغريزة الابتكار اضعفهما الاسترخاء وقتلهما الكسل والشرود الذهني، وتضاءلت في مخازن الذاكرة تفاصيلها القديمة، ومسح تشابه الأيام وروتينها ذكرياتهما الأولى، والتي كانت تختلف في ظروفها وشخصياتها عن الحاضر، فلم يدركا بسبب ذلك ضرورة التغيير في الوقت المناسب، فقاوماه بحجج الخوف من شدة الألم والذعر من مواجهة الفشل والرهبة من الغد المجهول، ولم يتوقف الأمر عند ذلك..، فقد نسيا أيضاً أين وضعا حذاءيهما..؟
لقد لاما نفسيهما كثيراً عن التأخير في الانطلاق للبحث عن جبن جديد أو احداث التغيير الضروري في سلوكهما مهما كلف الثمن، فقد خارت قواهما بسبب الاعتماد الكلي على الجبن، وتعطلت قدراتهما الموضوعية للتنبؤ بالقادم من الأيام العجاف، ومع تصاعد ألم المعاناة، ومشاعر الندم على التأخير، قررا بعد حين أن يبدآ رحلة البحث عن بديل، والمضي في قرار الخروج من دوامة الروتين والكسل، ومع مرور الأيام في رحلة الخروج، اكتشفا انهما نسيا طعم الجبن، واصبحت تأثيرات ملذاته في حكم المنتهية، وكان لابد أن تنتهي يوماً ما، ولا بد أن يخرجا في رحلة البحث عن ثروة جديدة مهما طال الطريق، وان فشلا في العثور على بديل للجبن، وهو ما حدث للقزمين، فقد اكتشفا انهما اكتسبا مهارات وسلوكيات متطورة،واستفادا كثيراً من أساليب البحث والعمل والاصرار على مواكبة التغيير الضروري للحياة، كما أنهما ايضاً نالا احترام الفأرين والمخلوقات التي تعلمت من قبل ضرورة اكتساب سبل حديثة وأساليب متطورة تمكنهم من العيش بأمان في مستقبل الأيام.
وعندما يأتي التغيير، يجب أن نتذكر، أن التأخير في الانطلاق أفضل من الانتظار للأبد، وكلما اسرعت في تقبل الواقع ونبذ موقعك القديم، نجحت في الوصول إلى هدفك الجديد، والسعادة لا تكمن فقط في تحقيق ما تريده، ولكنها يمكن أن تأتي ايضاً في أثناء السعي نحو تحقيق ذلك الهدف، ولن يكون الانطلاق في البدء سهلاً، فالأشياء في الخارج تبدلت كثيراً، والزمن لم يعد كما كان، والعمر مضى قطاره، والمفاهيم تطورت وصار لها أبعاد جديدة واختلفت الطرق والأساليب.. فإياك والعزلة في اطار محدود وتقاليد بائدة، معتقداً أنها ستمنحك الأمان الدائم، لأنك ستدرك بعد حين أنه لا توجد منطقة في منآى عن التغيير، أو كما يقال.. «دوام الحال من المحال».
|