كما ذكرت في مقال سابق (السبت قبل الماضي) فإن أهم ما يميز السنوات الماضية من اعلامنا السعودي هو احتواؤه على مضمون بخطاب مختلف عما كان عليه خطابنا في العقود الماضية، ومع هذا المضمون تأسس لنا هامش حرية غير مسبوق، إلا ربما خلال مرحلة صحافة الأفراد التي سبقت صدور نظام المؤسسات الصحافية، أي قبل عام 1383هـ/ 1963م.. حيث كانت تلك المرحلة تتسم بكونها مرحلة الأنظمة الاعلامية المتعددة.. حيث كان كل مالك ورئيس تحرير هو وزير اعلام بذاته وهو الرقيب الذي يراقب كل شيء حوله عدا كونه لا يراقب شيئاً في مملكته الصغيرة، صحيفته التي يملكها مثلما يمتلك بيته، ومزرعته ومتجره.
وهذا ما حدا بوزارة الاعلام في عهد الشيخ جميل الحجيلان ان تفكر في كيفية ترويض رؤساء تحرير صحف الأفراد وكتابها الى الخط الاجتماعي الوسطي للدولة بعيداً عن التيارات القومية والمذاهب الفكرية التي كانت تعشعش في فكر وسلوكيات الناس والنخب المثقفة في العالم العربي.
وفطن الملك فيصل رحمه الله إلى أنه ربما تكون احدى الطرق في تطوير الصحافة وتوجيهها هو في امكانية دمجها في بعضها لتقوى، وفيما بينها لتصبو الى مستوى المسؤولية، وكذلك في تنظيم آليات الدعم الحكومي لهذه الصحف.. وكنتيجة لهذه الظروف صدر نظام المؤسسات الصحافية والذي جاء من خلال توصية للجنة وزارية تشكلت من ثلاثة وزراء، هم وزير الاعلام الشيخ جميل الحجيلان، ووزير البترول والثروة المعدنية الشيخ أحمد زكي يماني، ووزير الزراعة الشيخ إبراهيم السويل رحمه الله.. وقد كان شعار تلك المرحلة في نظري، هو في الاتحاد «بين مالكي الصحف والكتاب والمثقفين ورجال الأعمال» قوة.. وفي القوة «المؤسسات بدلاً للأفراد».
توجيه إلى فكر اعلامي مستنير.. وعلى الرغم من ذلك النداء، لم تفلح الجهود إلا في دمج عدد محدود جداً من الصحف السعودية، وهذا ما أدى فعلاً إلى وضع نظام يجبر الملكيةالفردية للتحول إلى الملكية المؤسسية للصحف.
وهكذا فإن صحافة الأفراد كانت مرحلة تمثل هامشاً واسعاً من حرية الرأي والتعبير في صحافتنا واعلامنا.. ولم نستعد أونعود إلى مثل هذه المرحلة إلا خلال السنوات الماضية، حيث أمكن لنا أن نبني خطاباً متجدداً في أعلامنا، خطاباً مؤسساً على حس وطني عال وبمسؤولية اجتماعية واعية.. والمرحلة الجديدة التي نحن بصددها اليوم، هي مرحلة تأسيس نوعي لاعلامنا في الحقبة الحالية،ويتمثل في تغييرات مؤسسية على صعيد الاعلام الرسمي «اذاعة وتلفزة ووكالة انباء».. فلماذا جاء هذا التغيير؟
1- كانت هذه المؤسسات تعاني من البيروقراطية مثلها مثل كثير من الأجهزة الحكومية التي كانت تقتل ما نسميه الابداع الاعلامي، فالاجراءات الادارية والمالية الطويلة كانت تعيق أي تحرك تطوري في هذه المؤسسات.. وطبيعة الاجراءات الحكومية التي تفرض ذاتها على سير العمل،تمثل أداة تكبل الحركة المنطلقة للإبداع الاعلامي للأشخاص المعنيين بأداء أدوار جوهرية في التطوير.
2- تنامت أصوات كثيرة كانت تنادي بضرورة تحول أجهزة الاذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء السعودية الى مؤسسات عامة أو أي صيغة مختلفة عن هذه الصيغ الحكومية في ادارة العمل الاعلامي..وجاء التحول الى نظام مؤسسات عامة ليواكب تطلعات هذه الأصوات التي صدرت في أكثر من مناسبة ومن أكثر من جهة.. فمجلس الشورى أوصى بذلك.. والمجلس الأعلى للاعلام أوصى بذلك.. وكذلك وزارة الإعلام والجمعية السعودية للاعلام والاتصال التي أوصت كذلك بضرورة تحول مؤسسي لأجهزة الإعلام، رغم أنها لم تذكر صيغة المؤسسة العامة كبديل، خوفاً من كون هناك صيغاً أخرى أكثر مرونة. والذي نرجوه في المرحلة الحالية،وهي مرحلة تحول مؤسسي هامة لاعلامنا، أن نأخذ في الاعتبار الملاحظات التالية:
1- ينبغي ألا يكون التركيز على ابقاء الاذاعة والتلفزة ووكالة الأنباء مؤسسات حكومية بمجرد مسمى شكلي جديد عنوانه «مؤسسات عامة» فينبغي التفكير في اطار اعتماد روح القرار ووضع صياغات قانونية مناسبة لتحول جوهر ومضمون هذه المؤسسات إلى حالة جديدة مناسبة لطبيعة العمل الإعلامي، ولا شك أن وزير الاعلام الدكتور فؤاد الفارسي بخبرته الطويلة قادر على تحقيق هذا الهدف.
2- البعض ينادي بمفهوم مؤسسات عامة على شاكلة الجامعات، ولكن نموذج الجامعات لم يعد مقبولاً للجامعات ذاتها، فقد طالبت لجنة الاصلاح الاداري بضرورة اعطاء الجامعات صلاحيات وسلطات أكبر لتسيير دفة عملها على أفضل وجه.. ونحن لا نرى فائدة من تحويل وكالة الأنباء والاذاعة والتلفزيون الى صيغ مؤسسية تشبه ما هو قائم حالياً في الجامعات، لأن البيروقراطية الحكومية ومثلما عطلت كثيراً من اجراءات العمل الجامعي.. فانها ستأتي كذلك على هذه الأجهزة الاعلامية ولا أعتقد أن وزير الاعلام سيقبل بمثل ذلك.
3- لوكان لنا رأي في الاعلام، أو لنا رأي في توصيات لجنة الاصلاح الإداري، لما اخترنا للاعلام سوى نظام الهيئات المستقلة، كحل عملي يسعى لتطوير حقيقي للعملية الإعلامية في المملكة.. وتصبح لدينا هيئات مستقلة للوكالة والإذاعة والتلفزيون، تقع تحت ادارة مدير عام يكون مسؤولاً مسؤولية كاملة عن مضمون الأداء الاعلامي في هذه الأجهزة.. ويكون لكل هيئة مجلس ادارة من الشخصيات الاعلامية والثقافية والسياسية برئاسة معالي وزير الإعلام.. وتكون الإدارة التنفيذية من خلال المدير العام ويظل لوزارة الاعلام من خلال رئاسة وزير الاعلام لمجالس ادارتها حضور متابعة وتوجيه عام للسياسة الإعلامية لهذه الهيئات.
فلو أتيحت فرصة اعادة النظر في امكانية تحول الاذاعة والتلفزيون والوكالة إلى هيئات عامة فستكون فعلاً نقلة نوعية في تطور اعلامنا السعودي.. أتمنى أن نتوقف قليلاً لنعيد النقاش في هذا الموضوع، فالتحول هو قرار استراتيجي وجهت به القيادة، ويظل أمامنا فقط اختيار صيغة هذا التحول.. سواء أكان مؤسسة عامة، أم هيئة مستقلة، أم شركة خاصة. وهذه مسؤولية وزير الاعلام الدكتور فؤاد الفارسي الذي أثق باهتمامه وحرصه وبعد نظره ورغبته في تحقيق ذلك وهو قادر على ذلك إن شاء الله.
*رئيس مجلس ادارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
استاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود
|