أطلعت كما اطلع الكثيرون غيري على التصريح الذي أدلى به وزير الداخلية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز على هامش مؤتمر وزراء الداخلية العرب في تونس مؤخراً، ونشر هذا التصريح في: 12/11/1423هـ وكان من ضمن الحديث الذي أدلى به للصحافة ان قال وفقه الله: «إن مكافحة ظاهرة الإرهاب التي حظيت باهتمام مجلس وزراء الداخلية العرب لا تأتي عن طريق القمع وإنما بالتوجيه والتعليم وخاصة الذين تورطوا في أعمال إرهابية قد ضلوا الطريق وعليهم العودة إلى صوابهم وأن القضاء هو المرجع في هذا الموضوع».
قلت: هذا جزء مهم من تصريح سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز، وسأبذل جهدي في مناقشة مسألة مهمة وردت في هذا التصريح وهي المنهج المثالي في التعامل مع من تورط في أعمال إرهابية نابعة من انحرافات فكرية، وتأكيد الأمير على ان المكافحة تكون بالتوجيه والتعليم وان القمع ليس من الطرق المناسبة.
ومعلوم انه حين يكون الحديث عن الإرهاب يدخل تبعاً كل أنواعه من قتل وسفك دم أو أضرار بممتلكات عامة أو خاصة، فكل ما من شأنه إقلاق راحة الوطن والمواطن فهو الإرهاب المذموم شرعاً.
ولعلي هنا أبتعدُ عن الكلام الارتجالي أو العاطفي ومحاولة التركيز على تأكيد هذا التوجه الإصلاحي من منطلقات شرعية ونصوص تاريخية تؤكد على ان قمع الأفكار ذات التطرف والغلو من عدة أبواب أهمها الحوار والمناقشة وآخر الدواء هو العقوبة، مع التأكيد على ان اللجوء للحوار لا يعني بحال من الأحوال الضعف أو عدم القدرة على العقاب، بل الحوار هو المسلك الأول والأهم هنا إذا به يقضى على الشبهة في مهدها، ويكون الحوار سبباً في رجوع صاحب الفكرة المغلوطة عن رأيه بقناعة تامة وليس بسبب ضغط أو تأثير، بل الدافع الأول لرجوعه هو إحساسه بأنه كان في مرحلة سابقة مخالفاً للصواب، وأما التهديد أو التلويح بالعقاب من شأنه ان يجعل صاحب الفكر المخالف كالقنبلة الموقوتة التي قد تنفجر في أي لحظة حتى ولو كان ظاهره السكون.
علي بن أبي طالب في مواجهة الخوارج
وخير ما يمثل به في هذا الباب القصة التي حصلت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، حيث كان من أنصار الحوار عند من انحرف عن الجادة والصواب قبل العقاب، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس انه لما خرجت في تلك الفترة طائفة شذت في التعامل مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان عددهم ستة آلاف رجل، ويطلق عليهم في ذلك الوقت «الحرورية» نسبة إلى بلدة حروراء وهي بلدة عراقية وقبل ان يرسل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب الجيش للقيام بموقف تأديبي لهم كان هناك موقف آخر لا يقل أهمية عن الموقف التأديبي وهو أن أرسل الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، لمناقشة ولمعرفة ما عندهم من فكر، وبالفعل كان الحوار والنقاش مثمراً ومفيداً، فقد عاد عن رأيه بعد هذه المناقشة قرابة الألفين شخص من هؤلاء.
هم من المجتمع
نعم فمن يشذ بفكره ورأيه ويتبع خطوات دخيلة سواء كان بقصد أو من دون قصد هم من المجتمع ومن أبنائه مهما كانت درجة الانحراف، فالواجب التعامل مع قضيتهم على هذا الأساس، لأنهم جزء من المجتمع وقد يكون بعض من تأثر بهم لا يزال موجوداً في المجتمع. فالحوار والنقاش مهم لأجلهم ولأجل من يخشى تأثرهم بهم على درجة واحدة. والحوار مع من ضل السبيل على انه من أبناء المجتمع وليس عدواً خارجياً من بلد آخر أو كوكب أكثر تأثيراً في المجتمع لأنه متى ما أحسست ان الخطر قريب منك كان تفاعلك مع الحديث أكبر وأكثر.
نعم قد يكون من انحرف بفكره متأثراً بموجات خارجية لكن يبقى هذا المنحرف لديه من القدرة على اتخاذ القرار ما يجعله مسؤولاً.
على ذكر الموجات الخارجية!!!
استغرب كثيراً من طرح بعضهم لذكر كل فكر منحرف من انه أتى من عدو خارجي ومن فكر وافد، وان أبناء البلد دائماً ما يغرر بهم في كل مكان في العالم، واننا مستهدفون من الآخرين، وان المخططات على مدار الساعة على شبابنا!!!
هذا ما نسمعه كثيراً، لكن هل هو على اطلاقه، بل يوجد من أبناء هذا البلد من هو منحرف في نفسه ووجد لدى من بالخارج متنفساً لأفكاره.
ويستحيل ان يخلو مجتمع من منحرف فكرياً أو خلقياً وسلوكياً، وهذا ما نشاهده، وإذا كانت أشرف المجتمعات مثل مجتمع الصحابة الكرام لم تسلم من منافق فما بالك في هذه القرون المتأخرة.ومتى ما كان المجتمع ينظر على نفسه بهذه الدرجة، لا شك ان العاقبة ستكون وخيمة جداً عليه وعلى الأجيال القادمة.
الحوار متنفس لمن ضل السبيل
في كثير من الأمور جاء الحوار مهماً للطرفين المتحاورين فمن وقع تحت تأثير فكرة أودت به إلى ما لا يحسن من الأفكار والسلوك سواء شعر أو لم يشعر فهو يطرح فكره ورأيه على من يناقشه ويوضح له السبيل، ولست مبالغاً إذا قلت ان هذه الخطوة في مناقشة من ضل السبيل تفوق في تأثيرها أي خطورة تعقبها سواء كانت هذه الخطوة يقوم بها أفراد أو جماعات.
إذا لم يكن إلا الحزم فالحزم
الحزم في بعض الأحيان مع المخالف لا يغير الأفكار بل يرسخها، لذلك هو سلاح ذو حدين لا يصار إليه إذا تطلب الوضع، لكن مع الأسف نجد ان القمع والسجون وغير ذلك هي الخطوة الأولى في كثير من دول العالم لكن هذا لا يعني ان الحزم دائماً مرفوض بل هو منهج سار عليه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب كما أسلفنا، فبعد ان عاد إلى رشده من عاد ممن شذ عن الخليفة الراشد بعد ان قامت عليهم الحجة بالنقاش والحوار القائم على الكتاب والسنة، كان لابد من الحسم بالحزم، وهذا أخف الضررين، وقديماً قيل: «آخر الدواء الكي».
يحضرني هنا نص نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو عالم كبير له اطروحات فكرية وعلمية لها حضورها على مدى قرون، حيث وضّح ان القسوة على من تحب انها مطلوبة أحياناً، وانه يعقبها ما فيه النفع والفائدة، حيث قال: وتعلمون أيضاً ان ما يجري من نوع تغليظ، أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان: ما كان يجري بدمشق وما جرى الآن بمصر فليس ذلك غضاضة ولا نقصا في حق صاحبه، ولا حصل ذلك بسبب تغير منا ولا بغض، بل هو بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين أرفع قدراً وأنبه ذكرا وأحب وأعظم، وإنما هذه الأمور هي من صالح المؤمنين التي يصلح الله بها بعضهم ببعض، فإن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين.هذا ما قاله ابن تيمية وهو كلام نفيس من عالم كبير فيه تنبيه إلى ان النقد والحوار لا يمنع أن يكونا في بعض مراحلهما قاسيين متى ما كان الحوار وسيلة إلى غاية نبيلة.
الجدل المذموم
من المستغرب ان تجد بعض الناس ممن لا يملك معلومات شرعية، ولا الحد الأدنى من الفقه يناقش ويجادل في قضايا لو كان غيره ممن هو أثرى معرفة منه يحجم عنها، فالنقاشات ممن في بعض الأحيان لغير أهلها ضررها كبير وتدخل الشخص في مطبات هو في غنى عنها فالشخص العادي وغير المسؤول ما يضيره ان يكون مستمعاً أو قارئاً فقط؟!هل يجب عليه ان يكون مناقشاً مجادلاً للآخرين في كل مجال.أبذل جهدك ووطن نفسك على ألا تبحث إلا في موضوع يكون لك ومنك فيه الأثر المناسب ، أما النقاش والجدل من أجل الحضور الاجتماعي فهذا ضرره أكبر من نفعه.
وفي الختام
الأيام حبلى بالكثير، وليكن سلاحك هو تدينك الصادق، والتزود من العلم النافع، وتحصين نفسك ومن تحت ولايتك بما هو مفيد.
حفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين من كل مكروه.
فاكس: 2092858
|