Wednesday 7th may,2003 11178العدد الاربعاء 6 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الفتوى والاستفتاء في البرامج الإعلامية المباشرة 3/3 الفتوى والاستفتاء في البرامج الإعلامية المباشرة 3/3
فريد بن عبدالعزيز الزامل السُّليم /جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم

المستفتي وما عليه:
والركن الآخر لعملية الفتوى هو المستفتي، وهو في الحقيقة ركن مهم، ويدور حوله أمور خطيرة، من أكثرها أهمية وتأثيراً: اتباع الهوى، وتتبع الرخص..
إن اتباع الهوى قضية خطيرة، غفل عنها كثير من الناس، ورأوا انه إذا وجدت الفتوى في إباحة محظور فقد حل، دون نظر إلى المفتي، ولا إلى وقت الفتوى، ولا إلى الملابسات التي قد تكتنف الأمر، ودون نظر إلى ضوابط الفتوى التي نص عليها العلماء.
فمن الصور الخاطئة التي تنتشر بين الناس:
1 ان ينتشر بين الناس ان في المسألة رأيين، فيعمد بعض الناس إلى أخذ الرأي الأقرب إلى هواه، دون استفتاء، وهذه الصورة من أكثر الصور تساهلاً، فربما تكون المسألة المختلف فيها لا تنطبق تماماً على مسألة الشخص الخاصة، مثال ذلك: ان هناك رأيين في زكاة الحلي المعد للاستعمال، فيأخذ بعض الناس بقول من رأى انه لا زكاة فيه، دون ان يستفتي ويوضح حال ذلك الحلي الذي عنده، وقد يكون ذلك الحلي غير مستعمل ولا معد للتجارة، بل هو قد احتفظ به ادخارا وكنزا.. فهنا يتغير الحكم، والغالب انه لم يختر هذا القول مع ترك السؤال إلا لتساهله.
2 ان ينتشر ان في المسألة رأيين، فيعمد المستفتي إلى القائل بالرأي الأقرب إلى هواه، فيستفتيه، دون نظر إلى علمه ولا إلى ورعه، ولا إلى دليله، وهذا أيضاً حَكَّم الهوى في دينه.
3 ان يجهل حكم مسألة ما، فيستفتي عالماً يثق به، ثم يفتيه بما لا يرغب، فيبحث عن عالم آخر ليفتيه بما يريد، وهذا أيضاً محكم للهوى في دينه.
وهذا هو عين تتبع الرخص المنهي عنه، وذلك لأنه يفضي إلى مفاسد كبيرة جداً، مفاسد على الفرد ذاته، تفسد عليه دينه وعبادته وتعامله، ومفاسد يتعدى ضررها إلى المجتمع، فيحدث الفرقة والاختلاف، ويفضي إلى النزاع والتباغض، كما يضيع الحدود المعروفة المتفق عليها عُرفاً، ومعلوم ان للأعراف ميزاناً كبيراً في كثير من الأحكام، إذ انه ضابط لجانب منها.
وقد ذكر العلماء جملة كبيرة من مفاسد تتبع الرخص، ونُقل الإجماع على تحريم تتبع الرخص، وروي عن الإمام أحمد تفسيق فاعل ذلك «1»، ومما ذكر من تلك المفاسد:
1 الانسلاخ من الدين بترك العمل بالدليل إلى اتباع الخلاف «2»، والعبد المأمور عند التنازع بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فّإن تّنّازّعًتٍمً فٌي شّيًءُ فّرٍدٍَوهٍ إلّى اللّهٌ وّالرَّسٍولٌ} «3» إن الذي يلتمس التخفيفات، ويتتبع مواطن الرخص ورفع الحرج، بعيداً عن الغاية الحقيقية، من تمام العبودية، وخالص الخضوع والطاعة لله وحده، والسعي في جلب المصالح ودرء المفاسد.. مدعياً ان لا حرج في الدين فقد أخطأ وضل السبيل، فلا يجوز ان تنقلب الوسائل غايات.. «4».
2 قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «ثم ذلك الخلاف قد يكون قولاً ضعيفاً، فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو خطأ بعض المجتهدين، وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدين، وطاعة الشيطان، ومعصية رب العالمين، فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة، وأعانتها الأهواء الغالبة فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك، والخروج عن جملة الشرائع بالكلية» «5».
3 إن تتبع الرخص قد يؤدي إلى خرق إجماع الأمة، بتلفيق قول من مجموعة رخص، مثال ذلك: ان بعض العلماء لا يشترط الولي في النكاح، وبعضهم لا يشترط الشهود، وبعضهم لا يشترط الصداق، فلو جمع بين هذه الأقوال لتولد قول آخر، بجواز النكاح بلا ولي ولا شهود ولا صداق، وهذا لم يقل به أحد، فهو مخالف لإجماع الأمة «6»، نُقل عن إسماعيل القاضي انه قال: دخلت على المعتضد أحد خلفاء بني العباس، فدفع إليَّ كتاباً، فنظرت فيه، فإذا قد جُمع فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: بلى، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه. فأمر بالكتاب فأحرق، وقال الأوزاعي: من أخذ بقول المكيين في المتعة، والكوفيين في النبيذ، والمدنيين في الغناء، والشاميين في عصمة الخلفاء، فقد جمع الشر «7».
4 ان تتبع الرخص اسقاط التكليف في عامة مسائل الخلاف، فيعد كل امر مختلف في وجوبه ليس واجباً، وكل أمر مختلف في تحريمه مباحاً، ومعلوم كثرة المسائل المختلف فيها، فإذا اعتبر الخلاف في كل مسألة فسد دينه، لأنه لم يجعله ضابطاً له ومانعاً، وغير خافٍ ما في هذا الفعل من الاستهانة بالدين، والتلاعب بحدوده، والخلود إلى آراء البشر، المعرضة للزلل والخطأ والضلال.
إلى غير ذلك من مفاسدها العظيمة.
إن هناك ضوابط كثيرة يجهلها كثير من الناس، وإلى الجهل بها يرجع التساهل في شأن تتبع الرخص، حتى إن بعضهم يراه أمراً سائغاً جائزاً، لا يشك في حله، وأنا أريد أن أشير هنا إلى بعض تلك الضوابط باختصار شديد، فمن ذلك:
1 انه لا يجوز للمستفتي ان يستفتي إلا العالم الثقة المجتهد، ولا يجوز ان يستفتي من كان دون ذلك إلا ان يكون ناقلاً عن مجتهد.
2 فإذا وجد أكثر من مجتهد اختار أيهم شاء «8».
3 فإذا سأل مجتهداً فلا يسأل غيره، إلا ان وجد أوثق منه، فلا بأس ان يستفتيه.
4 وإذا تعارض عنده فتوى مجتهدين وجب عليه الترجيح بينهما، بأن يختار فتوى أفضل المجتهدين علماً وورعاً وتقوى. كذا فصل العلماء، وفرقوا بين هاتين المسألتين، وهما:
إذا لم يكن عنده علم بالحكم فله ان يستفتي من شاء بشرط ان يكون من أهل الاجتهاد، أما إذا علم ان مسألته قد أفتى فيها مجتهدان، وكان حكمهما مختلفاً، فأحدهم يحرم والثاني يبيح، مثلاً، أو أحدهما يوجب والثاني لا يوجب، وجب عليه ان يأخذ بفتوى أوثقهما علماً وورعاً وتقوى «9».. وهذه المسألة من أكثر مسائل الفتوى اضطراباً بين الناس، فقد أخطأ كثير، وظنوا ان المسائل الخلافية للعبد ان يختار أي الأقوال يوافق هواه، وهذا خطأ محض، بل يجب عليه ان يتقي الله فيما يأخذ وما يدع، قال الشاطبي رحمه الله: «ومتى خير المقلدون في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم، لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة» «10».
5 كما انه لا يجوز له ان يعمل بالفتوى دون ان يطمئن لها قلبه، فإن بعضهم يعمل بما وافق هواه، وإن اعتقد ان القول الآخر هو الصواب، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «استفت نفسك وان افتاك الناس وافتوك» «11» فيجب عليه ان يستفتي نفسه أولاً، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله، إذا كان يعلم ان في الأمر الباطن بخلاف ما أفتاه.. ولا يظن المستفتي ان مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه، إذا كان يعلم ان الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه» «12».
*نتيجة:
بعد هذا العرض السريع، والإشارات العابرة، أحب ان أذكر عدداً من النقاط، يمكن ان تضاف لتلك البرامج، لعلها تؤدي نتيجة أفضل، فمن ذلك:
1 ان يختار لهذه البرامج أفاضل العلماء، وأكثرهم علماً وورعاً، وأخلاقاً وسمتاً وسكينة وانضباطاً، وألا ينظر في ذلك إلى المصالح الدنيوية، كما يجب على هؤلاء العلماء ان يستجيبوا إذا دعوا لهذه البرامج وأمثالها، وان يحتسبوا في ذلك، وان لا يجعلوا الباب مشرعاً لغيرهم ممن هم دونهم.
2 ان يختار مقدمو هذه البرامج من طلاب العلم، الذين يضعون بصمات حسنة مفيدة على البرنامج، ولا يكون دورهم سلبياً.
3 ان يستقبل المقدم الأسئلة على شكل مجموعات، ثم يفرقها على المفتي، حتى يتمكن المفتي من استحضار جوانب الفتوى لكل سؤال حال استقبال بقية الأسئلة، وهذه الطريقة تجنب المفتي بعض المفاجآت وان كانت تفوت محاورة السائل.
4 ان يبين المفتي عند المسائل الخلافية بعض جوانب الخلاف، باختصار دون اسهاب، وان يثني على العلماء الآخرين، ويبين وجاهة أقوالهم، ثم يفتي بما يراه هو، وهذا يكفل غرس الثقة في أقوال العلماء الآخرين، ويقلص من خطورة تضارب الآراء.
5 ان يبين المفتي خطورة اتباع الهوى، وما ينتج عن تتبع الرخص من مفاسد، ويبين حرمة ذلك، كما يجب ان يبين ضوابط الفتوى العامة، أو يتولى ذلك مقدم البرنامج على مسمع من المفتي، وان يكرر ذلك بعد كل عدد من الحلقات، حتى يستقر ذلك في أذهان الناس.
هذا.. وأسأل الله تعالى ان يوفق الجميع لكل خير، وان يعلمنا ما ينفعنا وان ينفعنا بما علمنا، وان يزيدنا علماً، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 الموافقات 5/102 «هامش: 1».
2 الموافقات 5/94، 96، 99، 102.
3 سورة النساء من الآية: 59.
4 رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ضوابطه وتطبيقاته: 14.
5 اغاثة اللهفان 2/146.
6 الموافقات 5/103 «هامش: 2».
7 التعالم وأثره على الفكر والكتاب: 108.
8 هذه مسألة خلافية، فيها أقوال، منها انه يأخذ بالأخف، لأنه أيسر والله تعالى يقول: {يٍرٌيدٍ اللهٍ بٌكٍمٍ اليٍسًرّ وّلا يٍرٌيدٍ بٌكٍمٍ العٍسًرّ} وقال بعضهم: يأخذ بالأثقل لأنه الأحوط، وبعضهم قال يأخذ بفتوى الأعلم والأوثق، وقال آخرون: يسأل مفتياً آخر ويأخذ بفتوى من وافقه منهما. ينظر: آداب المفتي والمستفتي لابن الصلاح: 164، والفتوى نشأتها وتطورها أصولها وتطبيقاتها 2/630، والخلاف بين العلماء: أسبابه وموقفنا منه: 35 36.
9 ينظر في هذه المسائل روضة الطالبين 11/104، والمستصفى

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved