مرّ على القضية سنوات. ربما نسيها أصحابها ومع ذلك مازالت ماسكة معي وخصوصا انها تدق في وعيي في كل ساعة أتجول فيها في شوارع الرياض، أقلبها ذات اليمين وذات الشمال ومع ذلك مازلت أشعر أن ثمة خطأ جسيماً ارتكب.
كان الحلاق في شارع الشميسي القديم لا يعرف من الموضة إلا سلخ فروة الرأس على الصفر بأمواسه المثلمة المكتظة بكل جراثيم الأرض. يستلم رأسك جميلاً أنيقا ويعيده إليك بعد أن يملأه بالندوب والجروح وربما الكدمات إذا كان يحلقك وهو يسولف مع ضيف عزيز جاء فجأة أو مع صاحب الدكان في الجهة المقابلة من الشارع. لم يكن امام الناس خيار آخر حتى جاء اخواننا الأشوام وفتحوا دكاكين حلاقة أنيقة فانفرزت الأمور، فأصبح اخواننا في الشميسي حلاقين واخواننا في شارع الوزير أصحاب صالونات وبعد ذلك مصففي شعر، وبالتالي أصبحت دكاكين الشميسي دكاكين حلاقة والمحلات الأنيقة في شارع الوزير صالونات. أستطيع أن أدعي أن كلمة صالون لم تعد أجنبية بل عربية رغم أصلها الأجنبي فقد ارتضاها الأدباء والمفكرون للتداول بينهم حتى زالت عجمتها. نحن نعرف صالون العقاد وصالون مي زيادة وغيرها ولا أنسى أنه سبق لي أن نشرت سلسلة من المقالات الأدبية والترجمات تحت اسم (صالون عبدالله بن بخيت) ولم يزعل أحد.
الكثير يعرف أن الكلمة ليست مجرد أصوات مركبة تشير إلى معنى وتنتهي عنده. لا اعتقد أن سعودياً ينسى أن كلمة حلاق تتعدى في معناها ذلك الرجل المعلوم الذي يقوم بقص شعور الناس إلى معنى حضاري ودلالة اجتماعية مخصوصة. وفي هذه الحالة إذا أردنا ترك سلبيات الماضي يفترض ترك مصطلحاته معه.
تلاحظون الآن أن كثيراً من الناس يفتحون مقاصب ولكن بمسمى ملحمة ليسمى العامل فيها (لحام) لا (قصاب). هناك فرق كبير بين اللفظين رغم أن الدلالة المهنية واحدة. كلاهما في النهاية يبيع لحماً. مثال آخر: لو تدخل المغنية اللبنانية فيروز وإلى جانبها الطقاقة حجيبا الله يرحمها أنا متأكد أننا سوف نأخذ فيروز إلى صدر المجلس ونقضب حجيبا الدلة والفناجيل، لسبب بسيط لأننا أطلقنا على فيروز لقب فنانة بينما أطلقنا على حجيبا لقب طقاقة علما أن المهنة الأساسية واحدة. هذه مطربة وهذي مطربة، ولكن اللفظة ذاتها ترفع الإنسان أو تنزله لما تحمله من دلالة اجتماعية مخصوصة في ذاتها وليس في المهنة التي تشير إليها.
مثال آخر كلمة مهبول أو مجنون لم تعد متداولة لوصف أصحاب الأمراض النفسية الذين فقدوا شيئا من وعيهم، حيث استبدلناها بمريض نفسي وأحياناً نستبدل كلمة نفسي بكلمة سيكولوجي سعياً لامتصاص كمية أكبر من الدلالة السلبية التي تحملها هذه الكلمة.
مثال أخير: مع التطور الحضاري أطلقنا على المصانع التي تتعامل مع المعادن (مصانع تعدين) لو تأملنا فيها لوجدنا أنها هي نفسها مهنة الربابين لكن لو سميناها (مصانع الربابة) أنا على ثقة أن كثيراً من الناس لن يعمل. إذاً الكلمة ليست بريئة كما ظن اخواننا في أمانة مدينة الرياض وإنما تتعدى إلى أبعاد اجتماعية وحضارية كثيرة. بصراحة كل ما شفت كلمة حلاق معلقة في شوارع الرياض يتبادر إلى ذهني أن الاخوة في البلدية ارتكبوا خطأ جسيماً في استبدال كلمة صالون بكلمة حلاق والله أعلم.
فاكس: 4702164
|