الذين يرون تساقط الأوراق في فصل الخريف، ويستسلمون للخوف الوهمي من استمرار ذلك التساقط، هم الذين يخسرون كلَّ الجولات، ويصبحون آلاتٍ لأعدائهم يحركونهم بخوفهم كما يشاؤون.
الخريف فصلٌ واحد من فصول العام، حينما تتساقط فيه أوراق الأشجار، وتبدو فيه الأغصان مجرَّدةً من خضرتها ونضارتها الظاهرة، فإنَّ تدفُّقاً قويَّاً للحياة يسري داخل عروق الأشجار وشرايين جذوعها، الخريف لا يعني أبداً النهاية، وإنما هو بداية لرحلةٍ جديدة تتراقص لها الأشجار والأزهار طرباً وشوقاً، وتتغنَّى بها الحدائق سعادة وابتهاجا.
الخريف لا يستمر، وإنما يستمر الوهم في عقول الخائفين، الانهزاميين الذين لا يستطيعون أنْ يردّدوا بصوت مرتفع وترتيلٍ وتجويدٍ، قول الله تعالى: {الّذٌينّ قّالّ لّهٍمٍ النَّاسٍ إنَّ النَّاسّ قّدً جّمّعٍوا لّكٍمً فّاخًشّوًهٍمً فّزّادّهٍمً إيمّانْا}، الخريف ينتهي، وأوراق الأغصان تطلع من جديد وهي أجمل وأنضر، وضحايا الخوف الوهمي راحلون في سراديب خوفهم المظلمة رحلة ضياع لا تنتهي.
الخريف لا يستمر، إنه فصل من فصول العام، له أيامٌ معدودات ثم يرحل لتأتي الفصول الأخرى ثم ترحل، وهكذا دواليك رحلةٌ بعد رحلة، وحياةٌ تتجدَّد، ولسان عربي فصيح يردِّد: {فّمّنً آمّنّ وّأّصًلّحّ فّلا خّوًفِ عّلّيًهٌمً وّلا هٍمً يّحًزّنٍونّ} ويردِّد {أّلا إنَّ أّوًلٌيّاءّ اللهٌ لا خّوًفِ عّلّيًهٌمً وّلا هٍمً يّحًزّنٍونّ} ويردِّد {إنَّ الّذٌينّ قّالٍوا رّبٍَنّا اللهٍ ثٍمَّ اسًتّقّامٍوا فّلا خّوًفِ عّلّيًهٌمً وّلا هٍمً يّحًزّنٍونّ} ويردِّد {يّا عٌبّادٌ لا خّوًفِ عّلّيًكٍمٍ اليّوًمّ وّلا أّنتٍمً تّحًزّنٍونّ}.
الخريف لا يستمر، وإنما تستمر انكسارات النفوس اليائسة، والقلوب المغموسة في غفلتها ولهوها، والعقول المطمورة تحت ركام الهوى «الغلاَّب»، والأرواح التي استسلمت للأشباح، فما ترى أعين أصحابها تباشير الصَّباح.
الخريف لا يستمر: تُقْسم روابي قريتنا على ذلك قسماً صادقاً لم يحنَثْ أبداً، ولن يحنث أبداً، لأنها تعرف أنَّ الخريف لا يستمر منذ احتضنت تربتها الخصبة البذور التي تنبت، والجذور التي تمتدَّ فيها امتداد الأمل في شرايين قلوب المؤمنين.
الخريف لا يستمر، جملة صريحة فصيحة تردِّدها أشجار ساحات الأقصى، وبيَّارات التين والعنب والبرتقال والدُّرَّاق في حيفا ويافا والخليل، وتشدو بها أشجار غوطة دمشق التي ودَّعها قيصر الروم دامع العين وهو يقول: وداعاً يا دمشق لا لقاء بعده.
الخريف لا يستمر، أنشودةٌ جميلة الألحان ينشدها دجلةُ، ويردِّدها بعده الفرات، وتصغي إليها بغداد، ولسانُ حال ترابها المعرق في خصوبة التاريخ يقول بلغة عربية فصيحة بريئة من لَكْنةِ الأعاجم: صدقتم، صدقتم، إي والله صدقتم «الخريف لا يستمر».
الخريف لا يستمر، تردِّدها والدتي رعاها الله التي لا تنظر إلى ألسنة دخان الغارات نظرة «كاتبٍ مسروق من وعيه» مسكونٍ بالخوف الوهمي الذي يسيِّر قلمه، وإنما تنظر نظرةً مؤمنٍ بالله تعالى يتلو قوله: {إن يّنصٍرًكٍمٍ پلَّهٍ فّلا غّالٌبّ لّكٍمً}.
الخريف لا يستمر، يردِّدها أبناؤنا الصغار الذين سمعوا الأذان يعلن بصوته الرَّطب الجميل الواضح الجلي «الله أكبر، الله أكبر» وهم أجنَّةٌ في بطون أمهاتهم.
الخريف لا يستمر، يقولها بيقين لا يتزعزع من يعرفون معرفةً كاملة قانون اليهودي «ليبكين» في الدعاية، الذي يقول: إنَّ طَرْحَ آراءٍ مختلفةٍ لعددٍ من الأشخاص الذين يؤمنون بفكرة واحدة، يُحدث أثراً متعدِّداً في نفوس المتلقِّين يجعلهم يختلفون في تعاطفهم مع الآراء المطروحة تعاطفاً يختلف من شخصٍ إلى آخر، ولكنَّ النتيجة أنهم جميعاً يتعاطفون مع فكرة واحدةٍ يؤمن بها أصحاب الآراء المختلفة - تخيَّلوا هنا صورة الإعلام الأمريكي -.
الخريف لا يستمر، بالرغم من هَيْلمةِ الإعلام الغربي وهَيْلمانه، لسببٍ واحدٍ مهم ألا وهو: أنَّ الرَّبيع يأتي في وقته المقدَّر من الله ولا يسمح للخريف بالاستمرار.
إشارة:
لا تقلقي، هذه الدنيا طبيعتها
بُؤسٌ ونُعْمى، وترغيبٌ وترهيبُ
|
|