* الدجيل من آن-بياتريس كلاسمان د ب أ:
كانت المئات من قذائف الهاون متناثرة على امتداد الطريق المترب المؤدي لوسط مدينة الدجيل التي تقع على بعد سبعين كيلو متراً شمال بغداد، وكان الأطفال يلعبون وسط القذائف التي ما زال بعضها غير منزوع الفتيل، وكان الجنود العراقيون قد ألقوها جانبا حين وصلت القوات الأمريكية المتقدمة إلى المنطقة، وتتسم مياه الشرب في الدجيل بالقذارة الشديدة بحيث لا يمكن للمرء أن يرى عبر كوب ماء عند وضعه في مواجهة الضوء.
وبرغم كل ذلك، ظل السكان يشعرون أن عصرا ذهبيا جديدا قد بدأ.
وقال محمد توفيق وهو يضع راحته اليمنى على صدره معبرا عن مشاعره «لقد تحقق الحلم بالنسبة لنا».
وفي عهد صدام حسين، كان كل من يحمل جواز سفر مسجل عليه اسم الدجيل كمقر لمكان الميلاد لميلاد يعتبر «منبوذا»، وظل دخول المدينة محظورا على الأجانب بما في ذلك صحفيو التحقيقات طوال 21 سنة.
وفي يوم 8 تموز/يوليو عام 1982، أراد صدام حسين زيارة الدجيل للمرة الأولى، ولكن عندما وصل موكب سياراته إلى مفترق طرق بين مجموعة حقول، أطلقت مجموعة صغيرة تضم عشرين شخصا تقريبا النار على سيارته، ونجا صدام حسين لأنه كان قد أبدل سيارته في الطريق إلى المدينة، ولكن كثيرا من حراسه لقوا حتفهم في الحادث، مما أسفر عن بداية كابوس لم ينته سوى بعد الإطاحة بصدام حسين.
وفي البداية، قصفت القوات الجوية وسط المدينة ثم جاء عملاء أجهزة الأمن السرية والقوات الخاصة التابعة لصدام وقاموا بحملة اعتقالات عشوائية للرجال والنساء والأطفال في الشوارع، واعتقل ثمانية من الجماعة التي نفذت الهجوم وقتلوا رميا بالرصاص وفرت البقية للخارج عبر سوريا، واعتقل سكان بلدة الدجيل واعتبروا عشيرة واحدة، وتعرضوا للتعذيب والإعدام والسجن لسنوات، وظلت المدينة طوال سنوات محرومة من التيار الكهربائي باستثناء ساعة واحدة في اليوم وكانت مياه الشرب في الدجيل أقذر من أي مكان آخر في العراق.
وأمضت أم علي، التي ترتدي ثوبا أسود طويلاً تتميز به نساء الشيعة، أربع سنوات في السجن وقضت نصف فترة عقوبتها في معسكر بصحراء العراق الجنوبية، وتعرض ثمانية من أقارب أم علي الرجال في وقت لاحق للإعدام بينما انقطعت أنباء 13 آخرين منذ تلك «الأحداث».
وقال توفيق «نحن ندعو الأمريكيين للتحقيق مع برزان التكريتي شقيق صدام الذي قالوا إنهم اعتقلوه، فهو يعلم بالتحديد ما الذي حدث لاخوتنا وآبائنا».
مضيفا «إنه يعلم أماكن جميع السجون السرية والقبور الجماعية».
وعادت غرفة معيشة ذكرى عباس حسون تمتلئ تدريجيا بالزوار، ويمكنها الآن أخيرا بعد أن أطاح الأمريكيون بنظام صدام حسين أن تتحدث دون خوف من أن يكون أحد جواسيس أجهزة الأمن السرية موجودا في الغرفة.
وسجنت ذكرى في عام 1982 حين كانت في الثالثة عشرة من عمرها وهي تجد صعوبة في الحديث عن تلك الفترة، وهي تقول فجأة «لقد كانوا يعطوننا فقط خبزا مبللا لنتناوله وقاموا بجلد فتى في الرابعة من عمره 72 مرة بالسوط لأنه قال (صباح الخير)»، وتخرج ذكرى صورة لوالدها داخل إطار ذهبي من داخل خزانة وتتساءل قائلة «كا ن والدي مزارعا ولم تكن له علاقة بالسياسة، فلماذا إذن؟».
وكان زوجها قد تلقى علومه في بغداد في فترة الثمانينات. ويقول الرجل الملتحي الذي يرتدي ثوبا ناصع البياض «لقد جاء رجال أجهزة الأمن السرية وقالوا (إنك من الدجيل وبالتالي فأمامك خياران: إما أن تحصل لنا على معلومات وإما فسوف نسجنك أولا ثم نقتلك فيما بعد)، وبالتالي قررت التعاون معهم وأنا أشعر بالخزي للقيام بذلك».
ويقول أحد الجيران «حتى لو كان الأمريكيون يسعون فقط لتحقيق مصالحهم الخاصة من خلال خوض الحرب، فنحن سعداء لقدومهم، فقد كنا أول من قال (لا) لصدام وقد دفعنا ثمنا باهظا».
غير أن البعض في العراق لم يلاحظوا أن الزمن قد تغير، فإن أي شخص يقود سيارته على الطريق السريع من بغداد إلى تكريت، وهي موطن رأس صدام حسين، ويسأل عن إرشادات للوصول إلى مدينة الدجيل يتعرض لنظرات مشوبة بالريبة وأسئلة تعبر عن سوء الظن.
|