كتب توماس فريدمان، كاتب المقال في صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية، القريبة من صناع القرار في الحكومة الأمريكية، مقالاً مترجماً في عدد من الصحف العربية، ضمّنه مجموعة نصائح موجهة من الرئيس المخلوع صدام حسين إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش، تدور في مجملها حول كثير من القضايا العرقية والمذهبية والطائفية التي تقبل الانفجار في أي وقت لتعم بعدها فوضى وانفلات لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية ان تضبطه وتتحكم فيه والذي استوقفني فقرة على لسان الرئيس المخلوع ختم بها مقاله: «سيادة الرئيس بوش لابد ان تكون قد تساءلت محتاراً عن السبب الذي جعلني أرفض بذل المزيد مما كان ممكناً لتجنب هذه الحرب التي وضعت حداً لحياتي السياسية، ولكن هل تراني كنت أفكر بوجود شيء آخر في العالم، وإلى من كنت أصغي أصلاً؟ الإجابة: لم أكن لأصغي لأحد آخر سوى نفسي، وحذار أن تكرر أنت الخطأ عينه» ربما كانت هذه رسالة من الكاتب فريدمان لفخامة الرئيس الأمريكي كي لايرتجل في قراراته ويتجاهل إرادة النُّخَب في المجتمع الأمريكي وربما كانت غير ذلك، المهم أنها أكدت على أن الإصغاء تمدن في اللحظات الحاسمة التي يكثر فيها الابتزاز وشهود الزور وتنبت فيها بذور الشك والقلق والهواجس، ويعيش في ظلامها دعاة الهدم والتفكيك وبخاصة في زمن الرهان الخاطئ والانتظار والمراوحة في المكان الضيق الذي لايتسع إلى أكثر من رجل واحدة مصابة بالإعياء والتعب بسبب التعذيب على جدار المستحيل حتى يصاب المعذب بالدوار السياسي المخيف، ذلك الجدار الذي صرخ أمامه الشاعر المناضل عبدالوهاب البياتي:
إنهم يبنونه بخفاء، ويهدمونه على رؤوسنا، فقال قصيدته المشهورة في وصف مفارقات التاريخ:
جدار مستحيل
تنطحه الوعول
تحدث فيه ثغرة كبيرة
تنفذ من خلالها الظهيرة
وحينها لاتجدي القبعات المكسيكية ولا المظلات الأمريكية ولن تحلها الوجوه المستهلكة أو الصور المستنسخة، لأن اللصوص يتناسلون ويتركون البقية خلف ذلك الجدار للعراء، ويتركون كربلاء تجلد جسدها بالسلاسل في ظل غياب العقل. قال الإمام أبي طالب كرم الله وجهه.. «العقل حسام قاطع، فاستر خلل خلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك» مما يؤكد أن الإصغاء للمبادرات التي تحفظ كرامة شعب وترعى حضارة أمة فن يدركه النبلاء والشجعان والساسة الذين يؤمنون أن الثغور مفتوحة، وأن المدن بلا أسوار ينتحر الغزاة على أطرافها، تلك الأسوار التي عصفت بها الصراعات العرقية والمذهبية في ظل التخلف والتعصب والخرافة والاستبداد الذي ترعاه ظاهرة صوتية تؤمن بالشتم والسب والحرب على طريقة أبناء الشوارع عندما تكتفي بصد الصواريخ العابرة للقارات والقاذفات بوصف الغزاة بالعلوج وبراميل الزفت والطراطير والدببة الحمراء، وكأن خطابنا الإعلامي لايقل مثلاً عن تلك السيدة الثرثارة التي شاع خبرها في طرفة أثناء الحرب الأهلية في لبنان، إذ لا تستطيع أن تتوقف عن الكلام، وأصبح المبنى الذي تسكن فيه هدفاً للقصف الصاروخي، فنزل السكان إلى الملجأ، ووسط هذه الأجواء المخيفة والمرعبة تواصل هذه الثرثارة تحليلها مما أحدث ضجراً عند الجميع، وطلبوا منها أن تصمت في هذه الظروف ورفضت ذلك، ثم توصلوا إلى حل مؤقت معها، فاتفقوا على أن تتكلم يوماً وتصمت يوماً. تكلمت في اليوم الأول كلاماً كثيراً دون ضجر من أحد حسب الاتفاق، فقط ينتظرون اليوم التالي لتصمت، فاستيقظت في ذلك اليوم مكتئبة ولما طال السكوت أخذت تردد دون توقف (بكرة، بكرة بدنا ننق) مثل هذا النموذج كثير في مجتمعاتنا ولا غرو في ذلك فنحن أمة تمجد الكلام وتراه بياناً وبلاغة حتى وإن تبخرت الجهود في الأقوال قبل مجيء الأفعال في زمن تكلمت فيه المدافع وتولى الرويبضة أمر العامة مما جعل الناس تتحسس رأسها في مرحلة تجاوزت الترويج إلى الغموض المروع.
وليت كل ظاهرة صوتية قرأت قصة ذكرها المبرد في كتاب الكامل لما ولى أبوبكر رضي الله عنه يزيد ابن أبي سفيان ربعاً من أرباع الشام، فرقي المنبر فتكلم فأرتج عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة فقال:
«سيجعل الله بعد عسر يسراً، وبعد عي بياناً، وأنتم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوّال»، وبكل أسف نراهم يتحولون إلى محاضرين وعمرهم السياسي قصير جداً، في الندوات والمؤتمرات يفصلون الأحداث ويوزعون الأدوار، ويتهمون الشرفاء الذين يسيرون على نهج واضح بعيد عن استفزاز عدو شرس لايقاوم، يرسم الخرائط ويكتب التاريخ بأدواته وآلاته في أكثر المشاهد كوميديا، لجمهور يغرق في النوم تجاهلاً للتفاصيل بعد ما تورمت ذاكرته بمخزون الخذلان والارتزاق والإحباط والمفاجآت غير السارة، يراقب قارورة الأسرار التي نقلتها البحار واستقرت على شواطئه القذرة وهي تحمل غطاء من مطاط أو فلين أنهكته الحدود والمسافات فانفجر احتجاجاً على سياسة الصمت وعلى سياسة الكلام، في آن واحد فانتشرت الرائحة الكريهة النفّاذة على طريقة المبيدات الحشرية السامة لتستنشقها تلك الأنوف الأنفسجية العجيبة التي تمتد استثنائيا لتشم هي أيضا رائحة الشواء البشري على سفود الأقلام السينمائية التي لم تسدل ستارها العسكرتاريا البعثية وغيرها واكتفى العرب فقط بمهمة الكومبارس لأنهم يحملون وجوهاً سمراء تليق بالمشاهد التي يمثل دور البطولة فيها رامبو وهو ينقذ طفلاً للمستشفى أو يحمل طعاماً للاجئ يتضور جوعاً في زمن رايات الحداد الخفاقة على سارية المدن المهزومة التي تحولت إلى مقابر لاتحصى مثلما تحول الواقع إلى انقلابات وثورات وبيانات ومؤتمرات لاتحصى أيضاً في حق شعوب تمارس التثاؤب في الثكنات لتموت بنيران صديقة ثم ينتهي ذلك المسلسل على الطريقة المكسيكية حاملة حلقته الأخيرة رقماً تجاوز الآلاف باختفاء القادة واستسلامهم بالتتابع والمسدسات الذهبية تدلت على خواطرهم والنياشين ملأت صدورهم والنسور تحنطت على أكتافهم الغارقة بالبراجماتية، واكتشفنا ان تلك المسدسات قد صنعت لالتقاط الصور وقتل الأبرياء والأصدقاء والجيران والاستعراض السلمي للخيانات العظمى أمام كائنات مخدرة تحلم ان الانتصار يكون بالرصاصة الأخيرة وطرد الغازي من شبر التراب الأخير الذي اختصره صدام وزبانيته في مدينة تكريت إذ لابد ان يكون المسؤول على أي مستوى حاملاً للعرق التكريتي وإلا لا يحق له تمثيل الوطن بمؤسساته المختلفة، وهذا التصرف المختصر من أهم أسباب السقوط السريع للنظام المتهالك الذي لايؤمن بالتمأسس والتمدن والمشاركة الوطنية لأجيال تستف التراب في حين ان أجيال العالم تتناول الحلوى فحول الشعب الواحد إلى شعوب مختلفة في صورة غابت معها أدنى حدود الحداثة والتحديث حتى تظاهر الكلدانيون (التل كيف) مسيحيو الشمال من أجل الإفراج عن ركن من أركان الحكم المخلوع وطاغية الإعلام والتطبيل طارق عزيز ولا عجب في ذلك لأن الثورات الفاشلة لم تغير خيطاً واحداً في النسيج التقليدي للمجتمعات التي اكتسحتها بل سلت الخيوط الجميلة لتزركش بها نظام العسكرتاريا الأخرق وعدلت الكائنات وراثياً باسم الوطنية المقلوبة رأساً على عقب إلى كائنات تمارس مهنة البلع والخلع ومص الدماء في ظل رعاية حاضنة قطعت حبل السرة بين الجنين والتراب إمعاناً في تهجيره ونفيه مما أدى إلى الفوضى والارتباك التي رأيناها بعد سقوط النظام إذ لم يسلم منها لا متحف ولا جامعة ولا مستشفى وكل ذلك يشهد على أن المخلوعين لم يدركوا خطورة اختصار العراق في تكريت وقمع الهويات الفرعية على يد الحزب والايديولوجيا البائدة والدبابة التي قضت على أهم عنصر في الاقتصاد والحضارة (الإنسان) بحجة بناء المجتمع على أنغام الظاهرة الصوتية ذات الموجات المتمددة في هذا الشرق المتخلف حينما عطلت لغة الحوار والنقاش فآمنت ان الإدارة صلاحيات بلا مسؤوليات مما يحشد جملة، من الكوارث المنتظرة على يد الحمقى والسفهاء الذين يحفرون حفرة تحت مقعدهم في السفينة غير ملتزمين بالمصلحة العامة لأن المكان لهم والزمان لهم دون غيرهم وكأنهم في زورق يشبه زورق رامبو السكران وهو يترنح في محيط الدماء لتذهب كل محاولات العصرنة وهذا الطلاء الفاشي من تلك الأصابع التي قضمت شيئا فشيئاً على يد الغرغريناء في صورة تكرس القسمة الضيزى على يد ثعلب يلتهم قطعة الجبن أمام القردين المتفائلين بالعدل في مجلس قضاء يحمل شعار الميزان.
في مرحلة هي من أخطر المراحل قاطبة، لأنها آمنت مؤخراً ان الحديث باسم الجياع وتحرير فلسطين تحذير في أشد الحفلات التنكرية غياباً فالراقصون على الشعب العراقي جلادون، يمثلون أصدق تفسير ما لقول العرب («أسد عليّ وفي الحروب نعامة» خرقاء تنفر من صفير الصافر») قد أطلقت أطرافها الصناعية للريح في سباق الماراثون بعد سماعها صافرة الحكم الأمريكي وبكل أسف لم يشعر أحد من المثقفين والصحفيين والمطبلين والمراهنين على نجاح العسكرتاريا من أمثال عبدالباري عطوان إلا بسقوط العكاز الذي تستند عليه على يد السوس وشيخوخة الخشب في بيت يتناسل تحته الدود وتبيض في شقوقه الأفاعي.
والله من وراء القصد.
الإمارات العربية المتحدة
|