في قراءة سابقة لمجمل العلاقات السعودية الروسية، ثم تناول المراحل التاريخية الثلاث التي مرت بها، وما كان بها من تحولات، وعوامل مؤثرة، وظروف محلية وخارجية، وقد لعب الجانب الاقتصادي الدور الأكبر في ارتفاع وتيرة هذه العلاقات، ومن ثم في فتورها.
فقبل نهاية علاقات البلدين عام 1935م. سعت المملكة للحصول على قرض مالي ضخم، ولكن موسكو لم تر أي مصالح تدفعها لتقديم هذا القرض.
وقد شهدت تلك المرحلة حاجة المملكة الشديدة للدعم الاقتصادي للوفاء بمتطلبات المرحلة الجديدة في مسيرة الدولة الفتية بعد توحيد أطرافها التي حملت بعد ذلك اسم «المملكة العربية السعودية»، ولم يشفع لتحقيق المطلب السعودي زيارة الأمير فيصل «وزير الخارجية آنذاك» لموسكو عام 1932/1351هـ، والجولة التي قام بها في المؤسسات الصناعية الروسية لم تكن لمجرد جولة ونزهة، فقد كان الأمير فيصل، يطلع على تجربة الاتحاد السوفيتي الصناعية على أنه شريك اقتصادي، ولكن لم يتسن للطرفين في أثناء تلك الزيارة تحقيق الانطلاقة المطلوبة اقتصادياً، وإنما تم الحفاظ على العلاقات الودية وتوطيدها، وفي تفاعل سعودي إيجابي مع نتائج الزيارة فإنه لم تمض شهور على الزيارة حتى أبلغ الأمير فيصل عن طيب خاطر، المفوض تورياكولف، بأن جميع القيود التي كانت على التجارة السوفيتية قد ألغيت، وذلك في 16 فبراير 1933م، الموافق 22 شوال 1351هـ، ولكن هذا الإجراء لم يجد في تفعيل الرغبة الاقتصادية للجانب الروسي، ولم يتحرك إيجابياً في دعم المملكة بالرغم من تصريح الملك عبدالعزيز للمفوض الروسي بقوله: «أنا في حاجة إلى المساعدة السوفيتية»، ولأسباب غير معروفة بصورة موضوعية وعلمية، فإن الحكومة السوفيتية لم تقدم القرض المالي للمملكة. وكانت تنظر إلى أن التقارب مع المملكة في ذلك الوقت مهمة غير واقعية وليست من أولويات العلاقات السوفيتية، لذا كان الاقتصاد في تلك المرحلة العامل الأساس في فتور العلاقات ثم توقفها التام بإلغاء التمثيل الدبلوماسي السوفيتي، وفي المقابل فإن احتمالات استخراج النفط السعودي والذي أتاح امكانات جديدة للرياض، خفض وبشدة درجة الاهتمام بالصداقة مع موسكو.
هنا توقف تاريخ العلاقات السعودية السوفيتية، لتطوى صفحات أكثر من خمسة عقود زمنية شهدت كافة أشكال القطيعة بين البلدين «سياسيا - اقتصادياً - ثقافيا»، عدا شكليات دينية رمزية تتمثل في نفر لا يبلغون العشرة أفراد يقدمون للحج باسم مسلمي الاتحاد السوفيتي الذين يتجاوز عددهم الثمانين مليون مسلم.
ولكن الاقتصاد يعود مرة أخرى كمحور رئيس في هذه العلاقات الثنائية ليتدخل في تحييد الموقف السوفيتي تجاه التحالف الدولي لإخراج العراق - عسكرياً - من الكويت، فالقروض الاقتصادية أمست مفترق طريق في مسيرة الشرعية الدولية.
وها هو المحور الاقتصادي يعود مرة أخرى ليقرر المواجهة الدبلوماسية بين وموسكو وواشنطن إزاء الحملة الأمريكية على العراق، فالمصالح الاقتصادية الاستراتيجية لموسكو في العراق، والعقود الجارية التي سبقت الحرب وقفت بقوة حاملة راية حق النقض «الفيتو» الروسي تجاه الجهود الأمريكية داخل مجلس الأمن، التي تهدف إلى إضفاء الشرعية الدولية على حشودها العسكرية، وحملتها المسعورة.
إن المصالح الاقتصادية الروسية في المنطقة، والمهددة بالمشروع الأمريكي البريطاني في المنطقة، دفع روسيا نحو الخطوات الأولى نحو تفعيل علاقاتها مع المملكة، ومحاولة بحث الجوانب المختلفة في هذا المجال، بهدف تخليص هذه العلاقات في مشروعها المستقبلي. من شوائب واقع هذه العلاقات في المجالات الثقافية والإعلامية بوجه عام، والدينية بوجه خاص، وأخص من ذلك كله «المشكلة الشيشانية» في عمقها الداخلي في الساحة الروسية، وبعدها الدولي في مساحة العالم العربي والإسلامي. من هنا يظهر تساؤل عملي، فما هو دورنا في المملكة تجاه عملية تفعيل هذه العلاقات، وتوظيفها في التأثير على التحرك السياسي والاقتصادي في المنطقة؟
بالطبع لا يمكن إعطاء جواب مباشر، وليس هذا لاستحالة الجواب، بل كون الجواب المطلوب في ذاته مشروع وطني سعودي استراتيجي، يستلزم مراجعة أربعة ملفات رئيسية بكل تجرد وموضوعية، بهدف رسم مشروع استراتيجي شامل، فنحن في حاجة لمراجعة ملفاتنا السياسية والإعلامية والثقافية والاقتصادية.
ولكن على الصعيد الاقتصادي - محور هذا الموضوع - يجب أن نتجاوز الجهود التجارية - المشكورة - للغرف التجارية والصناعية السعودية. والمشروعات الفردية لبعض الشركات السعودية في مجال التبادل التجاري مع روسيا، فنحن في مرحلة تحتاج منا إلى نظر جاد وواقعي في حاجتنا إلى شراكة اقتصادية استراتيجية مع روسيا، تعود مكاسبها بصورة مباشرة على الوضع الاقتصادي السعودي بشكل عام، في ثلاثة محاور:
1. زيادة حجم التبادل التجاري وتنويعه.
2. تنويع سوق المنتجات السعودية في الخارج.
3- خفض التكاليف المالية الباهظة التي تتطلبها البرامج الاقتصادية مع أوروبا وأمريكا، وبالتالي زيادة عوائد البرامج الاقتصادية.
الحقيقة التي يجب أن نعترف بها في بداية هذه المسيرة، إننا في المملكة نجهل الكثير جداً عن البرامج التجارية الروسية، والفرص الاستثمارية، والقوانين المنظمة، ونفتقد لمراكز المعلومات الاقتصادية، والمراكز التجارية الوسيطة التي تقوم بدراسة الواقع التجاري الروسي، وتقوم المشاريع التجارية، وتراجع سجلات الشركات الروسية، وهذا الغياب شبه التام يعتبر أحد العوامل الرئيسية المثبطة للتحرك السعودي الفاعل والنشط. ولا زال رجال الأعمال في الملكة لم يتجاوزوا طرح الأسئلة البدائية عن التشريعات التجارية الروسية، وتأثير المافيا الروسية في الحركة التجارية، وحماية رؤوس الأموال الأجنبية، وهذا لا يعني إطلاقاً - نفي وجود مشكلات ومعوقات في التعاون التجاري مع روسيا، ولكن في تقديري أن سبب ذلك هو بعدنا عن الساحة، في ظل استثمارات أجنبية عملاقة لمعظم الدول «أمريكا - ألمانيا - إيران - إسرائيل - اليابان».خلاصة القول: نحن في حاجة إلى شراكة اقتصادية مع روسيا، وليس بالضرورة شراكة استراتيجية، بل يمكن أن تكون مرحلية، وفي ضوء هذه الحاجة يستلزم الأمر تحركاً إيجابياً وفاعلاً، في ثلاث نقاط:
1- جمع معلومات أساسية وشاملة عن الاقتصاد الروسي من حيث «تشريعاته وقوانينه - الفرص الاستثمارية ومجالاتها - الشركات الأساسية».
2- دراسة الاحتياجات الاقتصادية السعودية في ظل الأوضاع الراهنة، وخاصة في المجال النفطي، لاعتبارين:
الأول: إن النفط هو المصدر الاقتصادي السعودي الأول.
الثاني: توقع خلق مشكلات نفطية وزعزعة منظمة الأوبك، كإحدى نتائج الحملة العسكرية على العراق.
3- وضع برنامج عمل اقتصادي سعودي بالتعاون مع السوق الروسية، كشراكة اقتصادية.
ولعل الطرق الأفضل لكسب الوقت وتوفير المعلومات الاقتصادية عن البلدين هو عقد مؤتمر اقتصادي عن العمل التجاري السعودي الروسي، يعقد في العاصمة الروسية «موسكو» يهدف إلى تحقيق الآتي:
1- التعرف على الاتجاه الروسي تجاه برامج التبادل التجاري الأجنبي.
2- التعرف على الجوانب القانونية والتشريعية الروسية للاستثمارات الأجنبية.
3- التعرف على كبريات الشركات التجارية الروسية.
يكون من نتيجة ذلك إعداد ملف وثائقي يختصر المسافة الزمنية لأي دراسة مستقبلية للاستثمار مع الجانب الروسي.
إن نجاح التحرك الاقتصادي السعودي الخارجي، يعد مطلباً وطنياً ملحاً في الظروف الراهنة، فهو يحقق - على الأقل من بين ما يحقق من مصالح تخفيف ضغط السياسات الدولية في ظل الأوضاع الراهنة، ومن جانب آخر يفتح إحدى بوابات الأمان للاقتصاد السعودي.من الصعوبة بمكان التوقف عن معالجة مثل هذا المحور الهام، ولكن الأفق لا يزال خالياً من المحددات الرئيسية للتحرك المتبادل بين البلدين والذي يساعد الباحثين على الدراسة وطرح وجهات النظر، أو المشاركة في رسم جانب من السياسات المستقبلية.
وللحديث بقية بإذن الله،،
(*) باحث مختص في الشؤون الروسية
للتواصل : فاكس 4805154
|