* واشنطن - ستيث ستيرم (*)
يقول منعم الخطيب - الذي عمل محامياً في العراق خلال حكم صدام حسين- انه مارس مهنة المحاماة على أرض بلا قانون تخضع لهوى ديكتاتور مشيراً إلى انه كان يصل إلى المحكمة كل يوم وهو غير متأكد من المرسوم الجديد الذي قد يعلنه صدام حسين.
لقد شاهد الخطيب عمليات إدانة زائفة لعشرات المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة في الوقت الذي ينطلق فيه قادة ووجهاء حزب البعث إلى دائرة الضوء أو يعذبون الأعداء.
إن المنفيين مثل الخطيب والقضاة الذين ظلوا وراء الستار والمحتلين الامريكيين الجدد لهم يواجهون مهمة عسيرة في إعادة بناء حكم القانون في العراق حيث يجب عليهم استعادة استقلال القضاء وثقة المواطنين به وتنقية النظام القانوني العراقي من مراسيم صدام حسين ومحاكمة القادة السابقين الذين ارتكبوا جرائم ضد شعبهم إلا ان ما هو أهم من ذلك كله هو الحاجة إلى التحرك على نحو سريع: لقد أظهرت تجارب إعادة بناء الدول الأخرى ان العراقيين أمامهم أسابيع قليلة فقط قبل ان يفقدوا ثقتهم بحكومة جديدة قادرة على المحافظة على النظام ومعاقبة الذين ارتكبوا هذه الجرائم بإنصاف.
قانون حمورابي
لقد أعطى بطء إحراز تقدم في هايتي وكوسوفا درساً لبناة الدولة مفاده ان حكم القانون يلعب دوراً حيوياً هاماً في إعادة تحقيق الاستقرار.
يقول جمال بن عمر مسئول بالأمم المتحدة ساعد في عملية إعادة بناء النظم القانونية في مختلف أنحاء العالم «انه بدون ذلك لن تتوافر بيئة مواتية لإعادة البناء» وفي العراق لن يضطر القضاة على الأقل إلى البدء من لا شيء حيث لا تعاني البلاد من نقص في القوانين بما لديها من تراث قانوني يرجع تاريخه إلى قانون حمورابي القديم - وهو واحد من أقدم أشكال القانون المعروفة.
ويعد القانون العراقي الحديث - الذي تم تعديله آخر مرة في أواخر الستينيات الماضية - خليطاً من قوانين نابليون والشريعة الاسلامية حيث يحمل ملامح قوانين العثمانيين والبريطانيين الذين حكموا العراق في الماضي وهو يشبه هنا القانون المصري حيث يحتوي على بعض الأفكار المألوفة للغربيين مثل الافتراض المسبق بالبراءة بينما الشريعة تختص بعلاقات الأسرة.
إفساد القانون
يقول المحامون العراقيون في المنفى ان صدام حسين قام تدريجياً بافساد النظام القانوني خلال فترة حكمه التي امتدت لثلاثة عقود عندما أضاف مراسيم إلى القانون الجنائي تحظر معظم أشكال النشر وتضفي الشرعية على التعذيب وتقضي بعقوبة القتل على الهاربين من الجيش.
ويقول الخطيب - الذي كان يعمل في اوروبا عندما غزا العراق الكويت عام1990 وقرر عدم العودة - ان الأمر الأكثر إثارة للمشاكل تمثل في الاشارة إلى ان القادة العراقيين لا ينطبق عليهم القانون.
ويضيف «لقد تم تقسيم الشعب العراقي إلى قسمين: حكام فوق القانون ومحكومون هم ضحايا الظلم والاضطهاد».
تطلع المواطنون العراقيون - في ظل غياب العدالة أثناء حكم صدام حسين -إلى سبل غير رسمية لحل النزاعات فيما بينهم باللجوء إلى مسئولي حزب البعث للوقوف إلى جوارهم وهنا يقول شارلز فوريست عضو الحملة الدولية لإدانة مجرمي الحرب العراقيين التي تمولها الولايات المتحدة «ان الأمر يشبه المافيا .. حيث يطلب من يقدم المساعدة اليوم المقابل فيما بعد».
يقول الخبراء ان استعادة الثقة المفقودة في المحاكم وجهاز الشرطة سوف يكون من أكثر المهام إلحاحاً ويتعين اقتلاع أكثر مراسيم صدام حسين فظاظة وفداحة والتخلص من القضاة والمحامين الذين ساءت سمعتهم بسبب ارتباطهم بحزب البعث.
وتشير تقديرات المراقبين الدوليين والعراقيين في المنفى إلى ان نصف القضاة العاملين فقط يصلحون للبقاء في العمل في الوقت الذي اعتزل فيه العمل مبكراً الكثير من أفضل العقول القانونية أو فروا من العراق ولنأخذ مثالاً على ذلك ما يقوله فؤاد جواد رضا - الذي كان يعمل كبيراً للقضاة بوزارة العدل العراقية- «لم يكن بوسعي دعم النظام» وكان رضا قد فر من العراق عام 1990 مفضلاً عدم قبول رشاوي الحكومة له وحصل في النهاية على حق اللجوء السياسي في الولايات المتحدة.
يقول فؤاد رضا «لقد خدمت العدالة قدر ما أستطيع ».
دراسة أمريكية
وكشفت دراسة أجراها الجيش الامريكي حديثاً ان عدداً قليلاً من القضاة فضلوا البقاء في العراق ومواجهة المخاطر أو التقدم باقتراحات لتحسين الأحوال في الوقت الذي كان مفكرو الحكومة يتربصون بهم للقضاء على أي محاولة للتفكير المستقل.
إذن من هم الذين يقومون بعملية تنقية القانون؟
يقول المحامون في المنفى إن قيام رجال القانون العراقيين باستئصال الأجزاء الفاسدة من الجهاز القضائي يعد جزءاً حيوياً من عملية استعادة استقلاله.
ويقول سيرميد الصراف وهو محام يعيش في لوس انجلوس ويعمل في لجنة تابعة لوزارة الخارجية الامريكية لشئون المحامين في المنفى «في ضوء تاريخ خضوع الجهاز القضائي لمكتب الرئيس في ظل حكم صدام حسين يكون من المهم ان يحدث فصل في أقرب وقت ممكن بين الجهازين».
ويضيف الصراف قائلاً انه يجب تشكيل لجنة موسعة من القضاة والمحامين في المنفى ومن الذين ظلوا في العراق تكون مسئوليتها تعيين القضاة.
ويتابع قائلاً: ان الموضوع الأكثر إلحاحاً هنا هو كيفية إنزال العقاب بمرتكبي عمليات النهب والجرائم الأخرى خلال الأيام الأولى من الاحتلال.
نهب المحاكم
إن معاهدة جنيف تقضي بسريان القانون العراقي خلال فترة الاحتلال فيما عدا الأحوال التي يتعرض عندها المحتل للخطر الا ان المنفيين العراقيين يقولون ان القادة العسكريين الامريكيين على الأرض ليسوا متوافقين مع القوانين العراقية التي يفترض انهم يطبقونها في الوقت الذي عمت فيه الفوضى أيضا قاعات المحاكم العراقية فقد أثبت الجيش الامريكي في مدينة الناصرية في جنوب العراق ان قاعات المحاكم تعرضت للنهب مما حرم العدالة من المكان الذي تعمل فيه ومع ذلك فإنه بمجرد ان تستأنف المحاكم عملها فسوف تتحول هذه المهمة إلى إصلاح القوانين.
ويرى ان أحد المجالات التي من المحتمل إجراء تغيير بها هي قانون التمييز في الجنسية الذي يعطي الأفضلية للعرب ويقول المحامون في المنفى ان الأمر المنتظر هو نوعية القوانين التي قد يشملها التغيير ويؤكدون ان الشعب العراقي هو صاحب قرار الاصلاحات القانونية.
ويقول بن عمر ان هذا الأمر لم يكن كذلك في دول مثل هايتي أو البوسنة حيث بدأ محامون شباب من الخارج في صياغة قوانين جديدة دون التعرف على التاريخ القانوني الفريد للدولة. ويضيف قائلاً «لقد انتهى بهم الأمر إلى تحييد كل المحامين التقدميين ذوي العقليات الاصلاحية منذ اليوم الأول» وفي أفغانستان، ربما يتعلم الذين يعيشون في الخارج بسرعة ان النظام القانوني الرسمي للدولة يتعامل فقط مع مجموعة صغيرة من النزاعات بينما يتم حل بقية النزاعات بشكل غير رسمي عن طريق زعماء العشائر أو الشخصيات الأخرى بالسلطة خارج إطارالنظام القضائي.
محاكمات للجميع
إن محاكمة القيادات العراقية التي قد تطول على الأرجح سوف تؤدي إلى مثول ضباط من الجيش العراقي وقادة من حزب البعث ممن ارتكبوا جرائم ضد الشعب العراقي وضد جنود امريكيين وشخصيات أجنبية أخرى خلال الحرب العراقية الايرانية وأثناء الغزو العراقي للكويت ولا يتفق رجال القانون في المنفى والمسئولون الامريكيون وجماعات الدفاع عن حقوق الانسان الدولية بشأن ما إذا كان يتعين ان تنظر المحاكم العراقية أو محكمة دولية مثل تلك التي أقيمت في يوغسلافيا وسيراليون في قضايا مرتكبي الجرائم العراقية.
لقد تعهد المسئولون الامريكيون ان تكون الريادة للعراقيين في تقديم المجرمين للعدالة الا ان الولايات المتحدة احتفظت بحق معاقبة المسئولين عن الجرائم التي ارتكبت بحق قواتها خلال حربي الخليج - وهو تصنيف يمكن ان يبتلع الكثير من المطلوبين.
العلاج الثلاثي
اقترح رجال القانون العراقيون في المنفى القيام بعملية على ثلاثة محاور للتعامل بشكل منفصل مع الجرائم حسب درجة قسوتها بحيث يتم محاكمة عناصر حزب البعث البارزين والمسئولين العسكريين المتهمين بارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم الإبادة الجماعية أمام محكمة عراقية خاصة بينما يتم محاكمة المسئولين الأدنى مستوى منهم أمام المحاكم الجنائية العراقية عن جرائم من بينها القتل وأخيراً تتولى لجنة مصالحة وعفو مستقلة - على غرار اللجنة التي تم تشكيلها في جنوب افريقيا - النظر في الجرائم الصغيرة على ان يكون بامكان مرتكبي الجرائم والضحايا الاتصال باللجنة وبعد اعتراف مرتكب الجريمة بجريمته بشكل كامل يكون للجنة المصالحة في هذه الحالة اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان تقديم اعتذار من جانبه أمر كاف أو يتعين عليه تقديم تعويض.
محاكم مختلطة
وتدعو بعض الجماعات الدولية ومن بينها جماعة «هيومان رايتس ووتش» المعنية بحقوق الانسان ومنظمة العفو الدولية إلى محاكمة كبار مجرمي الحرب العراقيين أمام هيئة دولية يرأسها قضاة أجانب أو خليط من القضاة الأجانب والعراقيين.
ويؤكد القضاة العراقيون على ضرورة ان يصدر المواطنون العراقيون الحكم بانفسهم وهنا يقول الخطيب- الذي يأمل في العودة إلى العراق واستئناف عمله كمحام يقدم المشورة للشركات متعددة الجنسيات - «ان الشعب لا يريد رؤية محاكمة مواطنيه على أيدى جيش الغزاة .. أتركوا الشعب الذي كان ضحية هذا النظام ان يحضر ليرى بعينيه العراقيين وهم يحاكمون العراقيين».
( * ) خدمة كريستيان ساينس مونيتور - خاص بـ «الجزيرة»
|