تطالب شرائح المجتمع باختلاف وجهات نظرها بهامش تستطيع من خلاله المناقشة والمناظرة حتى يتبين الحق وتنجح عملية المداولات والأخذ والرد في تصحيح بعض الأخطاء وتعديل مسارها كلٌّ حسب رؤيته ووجهة نظره.
والمستقرئ لواقع الاختلاف لدينا أنه ما زال يتشح بلغة المصادرة، فكل صاحب وجهة نظر يصادر الرأي المخالف له تماما ولم ينج من ذلك إلا قلة قليلة ارتأوا أن فضيلة الصمت هي خير لهم من المشاركة في بعض اللغو الدائر.
ولنأخذ مثلاً..
في مسألة المدارس ومساهمتها في تربية السلوك الإرهابي لدى النشء والأمراض النفسية ومقاطعة الآخر والوقوع تحت طائلة فكرة المؤامرة والنظر بريبة لكل ما هو مختلف.. والتغريب عن البيئة.. و..
وإن الأنشطة اللامنهجية وبالتحديد «الدعوية» والمعلمين المتحمسين للدعوة هم المسؤولون عن ذلك.
** النقاش الذي دار حول هذه المسألة.. اتخذ صفة المصادرة في مجمله.
- فالشيء الذي كان لا بد أن يعيه المتناقشون أن الدعوة أمر ثابت وهي أمر لا مجال للأخذ والرد فيه من حيث كونها مبدأ لا بد أن يمارسه المسلم كلٌّ حسب جهده واستطاعته وأهم ركيزة في الدعوة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. كصفة ملازمة لخيرية الأمة.
وكذلك تربية النشء على السنن الإسلامية وتكفين الموتى سنَّة من سنن الإسلام ولها قانونها الخاص الموجب ولا بد من توارث الأمة عليه وكيف يمكن تثبيته في الذاكرة المجتمعية إذا لم يتلقاه التلميذ مثلما يتلقى درساً في كيفية الوضوء مثلا.. ولكن المتحرك في هذا الموضع والقابل للنقاش..
هو متى وكيف يتعلم التلاميذ هذا الدرس أو متى يتلقون هذا النشاط وكيف يتلقونه.. ولا أظن أن جهاز الانشطة الطلابية يجد بأساً في إثارة مثل هذه النقطة ونحن نثق أنه يعد أنشطته بعد دراسات مستوفاة من قبل متخصصين في العلم الشرعي، وكذلك العلم النفسي والاجتماعي، فالوزارة بلغت شأواً في منهجة برامجها وتكامل الرؤية فيها.. وسواء كان الأمر يحتاج الى مراجعة أو تأكيد لصحته فإن المناقشة فيه لا بأس فيها شريطة أن يكون طرحها مؤصلاً ومبنياً على وقائع بعينها والحديث عن هذه الوقائع فقط وعدم التعميم وتحميل الأمور بعداً أكثر مما تحتمل تنفيساً لرغبات أو تأكيدا لوجهات نظر خاطئة في الأصل.
** ثم إن «الإرهاب» مصطلح متذبذب عالمياً.. ولا يجب أن يقع في هذا التذبذب أبناء الإسلام فما هو جهاد هو ليس بإرهاب حتى لو نُظر له عالمياً هذه النظرة، فناشئة فلسطين وهم يقذفون إسرائيل ويفتحون صدورهم العارية لسهامها هم مجاهدون بإذن الله.
** ومسألة التغريب بين التلميذ وبيئته والتي يتولاها المعلمون المتحمسون..
فالأصل في دور المعلم هو التربية ثم التعليم ويتضح ذلك جلياً في كل دول العالم المتقدم والمتأخر.. وكثير من الانتقادات التي كانت توجَّه للمعلمين أنهم أشبه ما يكونون بالآلات التي تتلو المنهج دون أن يكون لها علاقة بالبيئة المحيطة وربط مفردات المنهج بالأحداث المواكبة حتى يستطيع التلميذ أن يكون متفاعلاً مع ما حوله ذا رأي فيه.
وحين يمارس المسلمون هذا الدور بوجهة نظرهم وحسب رؤيتهم وقبول ذلك هو أساس ثقافة الاختلاف وقبول الرأي الآخر فإن البعض ينقم عليهم ويرى أنهم يتجاوزون مسؤولياتهم.
لمَ لا نعلِّم تلاميذنا أن يقبلوا آراء معلميهم حتى لو هي مختلفة مع آراء آبائهم وأمهاتهم ويحتكمون باختيار الصائب إلى عقولهم.. من بين هذه الآراء طالما أنها تقع في منطقة المتحول القابل للأخذ والرد.
والتناقض الذي سينشأ من ذلك هو لب عملية الاختلاف وتداخل الأفكار وهي سمة الثقافة الحرة.. فلمَ نقبلها وننادي بها مع الآخر المختلف تماماً ونرفضها مع المماثل لنا في الأصول والمختلف فقط في الفروع.
وحرية التفكير لها ضريبة لا بد أن تدفعها كل وجهات النظر المطروحة.
** والذين يطالبون المعلمين بأن يعودوا ليستحيلوا إلى آلات صماء لا تساهم مع الآباء والأمهات في تشكيل تفكير التلميذ هم يقعون في مأزق المصادرة، فهذا فيه مصادرة واضحة لآراء المعلمين وخنقها فقط لأنها تختلف مع رؤية بعض الآباء والأمهات.
ولا أظن عاقلاً سيطلب مثلاً من معلم دين أن يسأل التلاميذ أولاً عن حال آبائهم وأمهاتهم إن كانوا يؤدون الصلاة في أوقاتها وتحديداً صلاة الفجر ويجعل الحكم وفق هذه الحال.
إن المعلم هنا رسول مسؤول عن تبليغ أحكام الدين للناشئة دون النظر لمطابقتها لحالهم أو حال أهليهم. ويبقى العلم الشرعي له من الأهمية ما يلزمنا تجاهه أن نحميه وأن نعتبره منطقة محظور المساس بها.. وأن ننظر للجاهلين به من الكتَّاب والمعلمين وغيرهم الذين يدلون بكلمات التحليل والتحريم والتكفير والمغالاة والتشدد جزافاً.. أنهم جميعا وبجهلهم يسومون المجتمع سوءالفرقة والشتات ويقعون فيما ينهون عنه.. ويعممون الشر ويصادرون الاجتهاد دون علم أو دراية.. والله المستعان.
|