«لما يئس «الكلب» من تقدير الحيوانات والبشر له، حرَّك ذيله...، رفع رأسه، فتح عينيه، وولَّى متَّجهاً إلى ركن قصي في مطلع الشارع المتعرِّج الذي يطلُّ على منافذ القرية...، يرى الذاهب والآيب، ويسمع المتحدِّث والمتخاصم، ويشاهد ما يدور...، وكلَّما جاع نهض يقتطف ممّا في الشارع، وكلَّما عطش فعل المثل، يقضي حاجته على طول الطَّريق وكأنَّه الساقي..، عندما يهمُّ أحدهم بضربه لإبعاده، يكون قد سبقه فراراً، وهكذا أصبح مصدر إزعاج لكلِّ العابرين دون أن يكون في وسعهم إقصاؤه أو تقبُّل وجوده لكنَّه أذكى من الجميع...
قربت منه صبيَّة تلاعبه...،
همَّ بِعضِّها ثمَّ ما لبث أن توقف...،
نزل عليه ذكاء الإنسان فُجاءة، وتخيل نفسه بمكره، حتى ترك لهذه الصَّبية أن تتحدث إليه وتسأله: لماذا تقف وتجلس وتنام وتأكل هنا، تارة تغمض عينيك وتحرك ذيلك، وأخرى تفتحهما وكأنَّك تترصد شيئاً؟
حرَّك الكلب لسانه في فمه ليس لشهوة الأكل بل لرغبة الكلام مقلداً صوت الإنسان:
قال: النَّاس الذين أنتِ منهم يا صغيرتي على الرغم من أنَّهم يعقلون، لا يقولون ما لايقصدون، ولا يفعلون ما لايريدون، إلاَّ أنَّهم أغبياء، ولو أنَّنا دخلنا إلى حلقة قابلنا فيها بين إنسان وكلب وتركناهما يتنابزان بهدف معرفة أيُّهما أكثر ذكاءً فإنَّ الحلبة ستضج زهواً بذكاء الكلب من فصيلتي. قالت الصَّبية: كيف؟ قال: ألا ترين بأنَّ الإنسان لشدة ما هو عليه من الضَّعف عندما يغضب يسبُّ الصغير والكبير والحمار والطير بالكلب؟... كيف يفعل لو أنَّه يعلم أنَّ الطير ليس كلباً، والحمار كذلك كما إنَّ الإنسان ليس كلباً، فالكلب ليس مذمَّة، وكيف إن علم أنَّه في عالم الحيوان مذموم بغدره، وظلمه، وجهله؟!
ألا يكفيه أن يعلم أنَّنا نعيش بالفطرة، لا يحركنا سوى ما فينا من هذه الفطرة...،
أمّا هو فإنَّه يتقصَّد، والتَّقصد ليس دوماً بوصلة أمان له..
قالت الصَّبية : كيف تتحدَّث بهذا المنطق وأنت كلب؟
قال لها: وكيف تسألين وأنت إنسان صغيرة؟
قالت: هناك فارق.
قال: ما هو؟
قالت: أنت حيوان:
قال: ألم يجعل من خلقنا لنا لغة كما هي لكم؟
كيف إذن تدَّعون فهمكم لنا؟ وتنسون أنَّه من الممكن أن نكون على فهم لكم؟
صمتت الصبيَّة، نابها شيء من الخوف، ظنَّت أنَّه جنيٌّ وليس كلباً...
فهم الكلب مخاوفها: ضحك، حرَّك ذيله، قال لها: هكذا أنتم؟ عندما لاتفهمون.. تخافون، فأنا كلب ولست جنياً».
كان هذا حلماً
استيقظت الفتاة وهي تكرِّره وداخلها ألف علامة استفهام.
|