قارات متداخلة.. عالم مفتوح على بعضه، شعوبه تتسابق في العلوم والثقافة وتفتح نوافذها لمعارف الكون من جهاته الأربع، كي توقد شعلتها الحضارية وتضيء خصوصياتها الفريدة للقرية العالمية الجديدة، والإنترنت نافذة لها سطوتها من أراد فليفتحها كاملة ومن أراد فليضع من الشباك والمغالق ما شاء، ولكن ركب المعرفة لن ينتظره، إنه ركب لم يتوقف قط!
والآن جاءنا النص الإلكتروني Hypertext or Hypermedia المتألف من عدة مسارات ومواقع تضم كل الوسائل الإعلامية من كتابة وصورة وصوت، فمثلاً عند قراءة نص، يمكن الحصول على سيرة كاتبها وتسجيل صوتي أو سينمائي، وعلى أعماله الأخرى وآراء النقاد والمراجع التي كتبت عنها، وعلى البشر والأمكنة والأزمنة والأحداث الواردة في النص مع الصورة والصوت أو الأفلام السينمائية التي تعرضت لها، وكل ذلك يتم عبر رحلة متشابكة بين المسارات والمواقع يتداخل فيها الأدبي مع العلمي والسياسي والجغرافي والتاريخي والأثري.. الخ، مما يساعد المهتم في الحصول على كم هائل من المعلومات في فترة وجيزة. هذا النص المفرط في تنوعه المعرفي كيف سينمو في عالمنا العربي حيث دور الرقابة تدخل أنفها في كل فروع المعرفة؟
ألا يعد حجب مواقع الإنترنت غير الإباحية مسَّا بحرية التعبير سواء للمرسل أو المتلقي؟ أليس المستخدم العاقل البالغ يعد مسؤولا عن نفسه، والأصل بالناس البالغين أنهم عقلاء يدركون ما ينفعهم وما يضرهم، وينبغي احترام حريتهم ما لم تعتدى على حرية وحقوق الآخرين؟ لم نعد ذاك المجتمع البسيط الساذج، نحن في زمن العولمة والانفتاح والشفافية.. الناس تتابع وترصد وتدرك ولا يمكن استغفالها، كما أن المواقع الثقافية والإخبارية وغيرها لا يرتادها غالبا إلا من لهم إطلاع واهتمامات جادة وقدرة تمحيصية أو حصانة ذاتية، فالرقيبب الذاتي يشكل الضمانة المثلى للمتوجسين ريبة من انحراف المجتمع او الفوضى الفكرية، فلا مبرر لفرض الوصاية عليهم أو استغبائهم.
وكثيرا ما تتوخى الجهة الحاجبة الحرص على سلامة محتويات الموقع وتوافقها مع توجهات معينة أكثر من احترامها للحقيقة أو لحق التعبير والاختلاف، مما يحصر الحقائق ويقلص المساحة الثقافية ويضيق الآفاق الذهنية وفقا لما يراه الحاجبون، مثلا حجب مواقع فكرية أو إخبارية يجعلنا نرى الفكرة أو الخبر من وجهة نظر تناسب الحاجب التي قد يثبت خطؤها بعد فترة تطول أو تقصر، إضافة الى ان ذلك يعني حجب جزء من الثقافة والعلوم فيزيد تأخرنا عن أمم لا تحجب المعلومات أو الأفكار عن شعوبها.
وللأسف يجري الحجب بطريقة غير منصفة فلا يتم إبلاغ المشرفين على المواقع، بل يتم الحجب فجأة دون إخطار أو إنذار، كما أن الحجب لا يتم وفق قواعد ضابطة أو معايير واضحة ومحددة، وذلك كما بينت دراسة لجامعة هارفرد (كلية الحقوق) وبموافقة وحدة الإنترنت بمدينة الملك عبدالعزيز، فمن عينة مقدارها 64557 موقعا وجد أن 2038 موقعا قد حجبتها المدينة ونسبة كبيرة منها غير إباحية منها الفكري والكوميدي!! وقد أوضحت الدراسة ان هناك معاييرمطاطة لتحديد المواقع التي يتم حجبها كما توصلت إلى أنه بالرغم من أن نظام الحجب الحالي فعال نسبيا، فإن حوالي 14% من المواقع الإباحية لم تحجب، وأن هناك العديد من المستخدمين يمكنهم تخطي الحجب بأساليب متنوعة.
لذا توصلت دراسات (مجلس الأبحاث الوطني الأمريكي عن البدراني) إلى نتيجة مفادها أنه مهما عظمت قدرة برامج فلترة المعلومات على التقليل من خطورة محتويات الإنترنت فإنها لا تكفي، ورأت أنه إذا أردنا حماية غير البالغين من المواد الإباحية أو السيئة فإن افضل جانب للحماية هو تكثيف التوعية بخطورة هذه المواد، يلي ذلك اخذ المزيد من الإجراءات الأخرى وأهمها محاصرة نشر مثل تلك المحتويات. وتتفق هذه الدراسة مع دراسة أخرى نشرت على شبكة الانترنت منذ عدة أشهر والتي أكدت أن برامج الفلترة الخاصة بمنع وحجب المواد السيئة لا تقوم في الحقيقة إلا بمنع ما بين 20 إلى 30% من المحتويات السيئة على شبكة الإنترنت الدولية (البدراني). وإذا علمنا أن المملكة تعد أكبر دولة عربية مستخدمة للإنترنت ومن المتوقع أن يصل عدد المستخدمين فيها بعد سنتين الى حوالي 5 ،4 مليون نسمة (نشرة مدار)، سندرك أن عملية الحجب تحتاج الى ضبط وتنظيم، فينبغي أن تحترم الحقوق ويسود النظام في هذه المجالات.
أما حجب مواقع معينة بدعوى التجاوزات أو التهجم على الآخرين، فإذا كانت هذه المواقع محلية يمكن مقاضاتها وفقاً للتشريعات المحلية إذا كان التهجم فعلاً يقع تحت طائلة القذف، أما اذا كان الموقع خارجيا فيمكن إبلاغ وتحذير الموقع واتباع التشريعات الدولية بهذا الخصوص.. فهناك العديد من العقوبات مثل الغرامات والجزاءات الأخرى، بحيث يكون الحجب آخرها.
أخيرا، ألا ينبغي ان يصرف الجهد على حجب المواقع الإباحية فقط بحيث تنحصر قائمة الممنوعات عليها، فهناك نسبة كبيرة كما أوضحت الدراسات من المواقع الإباحية لم تحجب، وهذه النسبة تغري مزيدا من الشباب في التوجه إليها والتركز عليها بدافع الفضول كباعث إضافي.. لقد أصبح العالم مفتوحا على بعضه، ما يغطيه الحاجبون عنا نتلقفه مباشرة بالصوت والصورة الوهاجة عبر الفضائيات وعبر اختراقات للإنترنت.. كل ما هنالك مزيد من مبالغ تهدر وجهد يبعثر وإضاعة لوقت الحاجبين والمحجوب عنهم.
|