يتعرض المجتمع الدولي بين الحين والآخر إلى بعض الأحداث والوقائع التي تطبع بصماتها على مسيرته وتطوره وتؤثر بشكل كبير في توازن القوى فيه، وتتسبب في زيادة درجة التوترفي علاقاته وتعاملاته.
ويزخر تأريخ العلاقات الدولية بالكثير من تلك الأحداث والوقائع التي غالباً ما كانت تؤدي إلى نشوب حروب عالمية أو اقليمية أو انهيار قوى دولية سائدة أو فرض أنظمة دولية جديدة تؤذن بحلول تغييرات جذرية في تركيبة المجتمع الدولي وهيكليته.
وليس هناك ادنى شك في ان التفجيرات الإرهابية التي شهدتها مدينتا نيويورك وواشنطن الأمريكيتان يوم 11 سبتمبر عام 2001م تصنف في قائمة تلك الوقائع والأحداث التي فرضت نفسها على العلاقات الدولية المعاصرة وعلى منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة.
وعلى الرغم من أن الصورةالنهائية للآثار البليغة التي احدثتها تلك التفجيرات لم تكتمل بعد حيث لا يزال العالم يرصد ويتابع بكثير من الترقب والقلق والذهول تطورات الاوضاع التي اعقبت ذلك الحادث المشؤوم إلا انه يمكن القول ان هناك من المؤشرات ما يؤكد بداية حدوث شروخ عميقة في تركيبة المجتمع الدولي المعاصر سوف يكون من شأنها احداث تغييرات ملموسة في العلاقات السائدة بين اعضائه بشكل أو بآخر، وفي الاوضاع الاقليمية والدولية بصفة عامة.
كما يؤكد من جانب آخر أن ذلك الحدث تسبب في وقوع الكثير من الاضرار التي طالت معظم دول العالم بدرجات متفاوتة من الحدة والجسامة ساهم في وقعها حقيقة ان العالم المعاصر اصبح عبارة عن قرية صغيرة يتأثر ساكنوها بشكل مباشر بأي طارئ يمس أحداً منهم، خاصة على ضوء ما تتسم به تلك القرية من اعتماد متبادل وتشابك في المصالح وتأثر بجميع مظاهر ثورة المعلومات والاتصالات والتقنيات.
وليس من الاسراف في القول ذكر أن المملكة العربية السعودية كانت من أكثر الدول تضرراً من جراء الأحداث التي جرت في الولايات المتحدة ومن جراء الأوضاع العالمية التي سادت في اعقابها التي أدت إلى التأثير سلباً في المرتكزات الثلاثة الأساسية التي تستند إليها سياسة المملكة الخارجية وهي: المرتكز الديني والمرتكز الاقتصادي والمرتكز السياسي.
بالنسبة للمرتكز الديني فإن وضع المملكة بوصفها البلاد التي انطلقت منها الدعوة الإسلامية، وباعتبار وجود الأماكن المقدسة فيها وبسبب السياسة الإسلامية الرشيدة التي تنتهجها كل ذلك جعلها تصبح مهوى أفئدة المسلمين ومحط انظارهم وجعل كلمتها تصبح مسموعة لدى الدول الإسلامية وتأثيرها كبيراً وواضحاً مما اعطاها مكانة ودوراً قيادياً بارزاً في العالم الإسلامي، كما مكنها من تقديم خدمات جليلة للمسلمين في جميع اصقاع الأرض سواء عن طريق إقامة المراكز الإسلامية أو مساندة قضايا الأقليات المسلمة أو نشر الإسلام عن طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
ومن المؤسف أن تأتي احداث 11 سبتمبر لتلقي بظلالها الكئيبة علي هذه الإنجازات.
ليس ذلك فحسب بل إن ذلك بالارهاب الذي هو منه براء.
لقد أعطت تلك الاحداث لأعداء الإسلام الذرائع والمبررات التي كانوا يتحرقون شوقاً إليها لكي يمارسوا تشويها متعمداً للإسلام ولكي يفرضوا ضغوطاً أكثر على العرب والمسلمين.
لقد بتنا كمسلمين في موقع الدفاع ومكمن الحصار ومستوى ردة الفعل، مع إننا كان يمكن أن نكون في موقع الانطلاق ودائرة الفعل وامتلاك زمام المبادرة، منذ احداث 11 سبتمبر أصبحت الأنظار مسلطة على المملكة العربية السعودية وعلى المسئوليات التي تقع عليها وعلى بقية دول المنطقة، في مواجهة الارهاب وتبنت وسائل الإعلام الغربية مقولة ان بعض الأوضاع الداخلية في هذه الدول ومنها المملكة لا تمكنها من التعامل بفاعلية كافية مع خطر الإرهاب والتعاول الدولي المبذول في سبيل مكافحته.
ولم تكتف وسائل الإعلام الغربية بذلك بل إنها اتخذت من تلك المقولة معولاً لدق إسفين في العلاقات الإستراتيجية التي تربط بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا كان المجال لا يسمح هنا للإسهاب في تفنيد هذه المقولات وتحليلها إلا انه من المهم الإشارة إلى انه لا ينبغي بحال من الأحوال ان تقف هذه المقولات حائلاً دون استمرار المملكة في القيام بمسؤلياتها وواجباتها التي يفرضها عليها واقعها وموقعها الديني واوضاعها وظروفها السياسية التي تمكنت بفضلها من تحقيق مركز ريادي في العالم الإسلامي كما استطاعت عبرها إقامة علاقات إستراتيجية مع كثير من دول العالم.
بالنسبة للمرتكز الإقتصادي فمن المعروف ان وضع المملكة البترولي باعتبارها أكبر دولة منتجة للبترول في العالم وباعتبار مخزونها البترولي الضخم وبسبب الاعتماد عليها كمصدر أساسي موثوق للطاقة كل هذا وفر لها امكانات ملموسة للتأثير في المحافل الدولية وقد استطاعت المملكة بفضل الله ثم بفضل حكمتها وحنكتها السياسية وبعد نظر قادتها أن تستفيد من هذا الجانب في تحقيق مركز مرموق لها في المنظمات والمؤسسات الدولية يستند إلى الجدية والمصداقية وكذلك في انشاء علاقات ثنائية جيدة مع جميع الدول تقوم على اساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشئون الداخلية.
ومن جهة أخرى فإن الموارد المالية التي توافرت لها من جراء صادرات البترول أفادتها كثيراً في تعزيز مواقفها الدولية عن طريق المساعدات الإنمائية والاغاثية والصرف على أنشطة الدولة الخارجية بما يعود بالنفع على أهدافها القومية وبالإضافة إلى الاستفادة بطبيعة الحال من تلك الموارد داخلياً في تنمية البلاد وإقامة البنى التحتية الضخمة التي تم إنشاؤها.
ما حدث بعد 11 سبتمبر هو أن الاتجاه نحو التقليل من أهمية الدور الاستراتيجي لمنطقة الخليج في أسواق الطاقة العالمية والتقليل من أهمية البترول السعودي بصفة خاصة بدأ يأخذ منحى أكثر خطورة وأبعد أثراً من ذي قبل، بمعنى أنه بدأ في الخروج من دائرة التنظير إلى مستوى التفعيل وذلك بمحاولات تحويله من مجرد آراء وتكهنات وتوقعات إلى سياسات وخطط وبرامج قابلة للتنفيذ.
المبررات التي تم اللجوء إليها لدعم تلك المحاولات تركزت في جانبين: الأول هو ابداء القلق المتزايد من عدم الاستقرار الداخلي في المنطقة وبالتالي عدم قدرتها على القيام بدور الممول الموثوق به الذي يمكن الاعتماد عليه، والثاني هو ايجاد بدائل متاحة تستطيع ان تضعف من قدرة دول المنطقة وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية على الاستمرار في القيام بدورها كممول استراتيجي رئيس للبترول في العالم.
هذا بالإضافة بطبيعة الحال إلى أن احتمالات التذبذب المتوقع في أسعار البترول نتيجة الاحداث المتسارعة في المنطقة وفي العالم لا يصب عادة - وكما هو معروف - في مصلحة المملكة وهي الدولة التي عرف عنها دائماً حرصها الشديد وسعيها الدؤوب على تحقيق التوازن في السوق العالمية للبترول سواء بالنسبة للإنتاج أو بالنسبة للأسعار.
مرة أخرى ليس هذا هو المجال لتفنيد هذه التوجهات وسبر اغوارها وتوضيح متانة الوضع البترولي للمملكة وإثبات عدم قدرة المصادر البديلة المطروحة على أن تحل محل المملكة كمصدر موثوق به ومعتمد عليه كممول استراتيجي رئيس للبترول في العالم.
ففي داخل اراضي المملكة يكمن ربع احتياطي العالم من البترول.
وهذه الحقيقة في حد ذاتها لا تغير منها مخططات في بحر قزوين ولا خطط في حقول العراق أو غيرها، كما ان استقرار السوق البترولية ورخاء العالم يتوقف على الأقل في المستقبل المنظور على سياسة المملكة البترولية.
بالنسبة للمرتكز السياسي فلقد تمكنت المملكة وبفضل أهمية المرتكزين السابقين، الديني والاقتصادي، من تحقيق مركز دولي مرموق على الصعيد السياسي استطاعت من خلاله ان تصبح مركز الثقل بالنسبة للقضايا الأساسية التي تعرضت وتتعرض لها المنطقة، مثل القضية الفلسطينية وافغانستان والوضع في الخليج، وغير ذلك من قضايا ومشكلات.
احداث 11 سبتمبر جاءت لتحدث تأثيرات سلبية خطيرة في أهم القضايا السياسية التي كانت ولا تزال تُعنى بها السياسة الخارجية للمملكة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والوضع في العراق.
بالنسبة للقضية الفلسطينية فإن جميع الدلائل تشير إلى انها كانت هي الخاسر الأكبر من جراء تداعيات احداث 11 سبتمبر وذلك على الرغم من بعض التحرك الايجابي الذي شهدته القضية قبل سبتمبر 2001م، الذي كان للمملكة العربية السعودية فضل لا ينكر في تحقيقه.
لقد قدمت أحداث 11 سبتمبر لإسرائيل وعلى طبق من ذهب ما كانت تطمح وتتطلع إليه.
لم تقتصر المنافع التي جنتها إسرائيل على انحسار التركيز على عملية السلام في الشرق الأوسط في اعقاب انصراف الاهتمام الدولي إلى قضية الارهاب وسبل مكافحته، بل إن النكسة الأكثر خطورة حدثت حينما تمكنت إسرائيل من ربط المقاومة الفلسطينية الشرعية للاحتلال الإسرائيلي بالارهاب والتعامل معها على ذلك الاساس، وانتزاع التأييد لهذا الربط من الدول الغربية وهو الأمر الذي ادى إلى اعطاء إسرائيل الضوء الاخضر لكي تعيث في الاراضي الفلسطينية فساداً وتمارس جميع صنوف إرهاب الدولة بلا رقيب ولا حسيب.
بالنسبة للوضع في العراق، فإن أهم سلبيات احداث 11 سبتمبر تمثلت في التحول الجذري في اسلوب معالجة الوضع فيه من الاستمرار في تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة إلى اللجوء إلى العمل العسكري أو خيار الحرب وهذا بالتالي هو الذي حدا بالمملكة العربية السعودية ومنذ بدء الازمة إلى ان تتحرك على الصعيد الدولي بشكل مكثف للعمل على ضمان أمن منطقة الخلية واستقرارها والمحافظة على مصالح شعوبها.
وفي اطار هذا التحرك بذلت المملكة جهوداً حثيثة في سبيل اقناع جميع الاطراف المؤثرة بضرورة تجنب اللجوء إلى العمل العسكري والحرص على بقاء المسألة العراقية داخل اطار مجلس الأمن وذلك بالتأكيد على دور الأمم المتحدة والشرعية الدولية.
أما جهود المملكة بعد قيام الحرب فقد انصبت في العمل على كل ما من شأنه سلامة الشعب العراقي والمحافظة على وحدة العراق واستقلاله وسيادته وسلامة أراضيه.
وفي هذا الصدد فقد حرصت المملكة على التأكيد على ضرورة انسحاب القوات المحتلة من العراق وتمكين الشعب العراقي من ادارة شؤونه بنفسه، والتأكيد أيضاً على الدور المحوري للأمم المتحدة في التعامل مع اوضاع عراق ما بعد الحرب، بالاضافة إلى العمل على تقديم المساعدات الإنسانية اللازمة للشعب العراقي الشقيق.
وبصرف النظر عن التصورات أو السيناريوهات المطروحة والمتداولة بشأن تطورات الوضع في عراق ما بعد الحرب فإن المحصلة النهائية هي ان تداعيات الحرب ستؤدي إلى خلق واقع جديد وفرض تحديات جسيمة على النظام العربي، ولمواجهة هذا الواقع وتلك التحديات فلا يبدو ان هناك مخرجاً سوى الأخذ بالمبادرة الجريئة والواقعية التي طرحها صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز لإصلاح الوضع العربي.
غير انه لابد من التنويه هنا بأن هذا التراجع وهذه النكسات التي لحقت بأهم القضايا السياسية في المنطقة بفضل احداث 11 سبتمبر لم تفتت من عضد المملكة أو تخفف من انشغالها بها واستمرار التعامل معها باعتبارها من ركائز السياسة الخارجية للمملكة.
فالقضية الفلسطينية ما برحت تقبع على رأس سلم اولويات التحرك الدبلوماسي السعودي في جميع المحافل الدولية، والوضع في العراق، وهو حديث الساعة في هذه الأيام لا يزال يحظى باقصى اهتمامات المملكة ولا يزال الهدف الرئيسي للسياسة السعودية هوالتأكيد على وحدة العراق واستقلاله وسلامة أراضيه.
وإذا كان من الطبيعي أن يكون للأحداث والاوضاع التي طرأت بعد 11 سبتمبر انعكاسات سلبية على المرتكزات الثلاثة المشار إليها آنفاً، إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه نتيجة لذلك هو: كيف يمكن للمملكة ان تستعيدزمام المبادرة وان تعيد التوازن إلى المرتكزات الأساسية الثلاثة التي تستند إليها سياستها الخارجية؟
نقطة الانطلاق الاساسية التي يجب التأكيد عليها للإجابة عن هذه التساؤلات هي اننا في المملكة العربية السعودية وبصرف النظر عن أبعاد الحملات الإعلامية التي أخذنا نتعرض لها منذ احداث 11 سبتمبر ومهما كانت طبيعة وخطورة التحديات التي تواجهنا، فإن العنصرين الاساسيين اللذين يجب أن نعض عليهما بالنواجذ واللذين يجب ألا نقبل فيهما أي مساومة أو تنازل أو تفريط هما: ديننا ووطننا كما أكد على ذلك مراراً وتكراراً صاحب السمو الملكي ولي العهد - حفظه الله- ولكن السؤال الذي يجب ان يطرح هنا هو: ما الذي ينبغي لنا أن نفعله لكي نتصدى للحملات التي تستهدف هذا الدين الذي هو عصمة امرنا وملاذنا الاول والأخير؟ وما الذي ينبغي لنا أن نفعله لكي نحافظ على هذا الوطن الذي هو حصننا الحصين لكي يظل - وكما كان شأنه دائماً ولله الحمد- آمناً سالماً ومستقراً؟
قبل الاجابة عن هذه التساؤلات هناك بعض الحقائق التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار ومنها:
أولاً: ان المملكة العربية السعودية دولةً ومجتمعاً تملك مقومات اجتياز الأزمات بل تملك ايضا مقومات توظيف الازمات لصالح سياستها ومستقبلها.
ثانياً: ان المشروع الحضاري السعودي ثابت وواضح وهو ينطلق من الإسلام الذي قامت عليه الدولة منذ تأسيسها وتمسكت به منذ ذلك الحين، واعتبرته اساس ومرتكز قرارتها ومواقفها في جميع الميادين والحقول الداخلية منها والخارجية.
ثالثاً: إن عالم ما بعد 11 سبتمبر لم يعد هو ذاته عالم ما قبل 11 سبتمبر لم يعد بالامكان الفصل التام والنهائي بين ما هو «محلي» وما هو «خارجي» أو دولي.. لقد انتهى عهد وبدأ عهد.
رابعاً: ان مشروعنا الحضاري السعودي وكنتيجة للمتغيرات التي طرأت على الأوضاع الدولية بعد احداث 11 سبتمبر أصبح تحت المجهر وبالتالي فإنه أصبح بحاجة ماسة إلى خطاب جديد نقدمه للعالم بلغة جديدة وعقلية متفتحة .. خطاب جديد ينطلق من ذات المبادئ الثابتة والخالدة لديننا الحنيف ولكن وفق فهم معاصر يتناسب مع التطورات التي طرأت ويتكيف مع المتغيرات التي حدثت، ويتلاءم مع الأوضاع الدولية في عالم ما بعد 11 سبتمبر.
إذا تفهمنا هذه الحقائق وأصبحت جزءاً من وعينا وإدراكنا، فإن الخطوة التالية تصبح هي ان نحدد بشكل واضح وجلي الابعاد الحقيقية للمعضلة الاساسية التي تواجهنا في هذا المنعطف التاريخي الحاسم والخطير.
فبلادنا تفخر بحق انها تطبق نموذجا فريداً من نوعه يقوم اساساً على الالتزام بالشريعة الإسلامية في جميع مناشط الدولة ومجالاتها وفي جميع القرارات التي تعالج شؤونها الداخلية والخارجية.
تطبيق هذا النموذج أدى من جانب إلى تأكيدنا وبصفة دائمة على ضرورة حمايته من المؤثرات الخارجية وإحاطته بأسوار منيعة تحميه من مختلف أنواع تلك المؤثرات فكرية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية، كما جعلنا من جانب آخر نتمسك بمقولة اصبحنا نرددها في محافل كثيرة، ونبرزها في مناسبات مختلفة، ونؤكد عليها في أوقات ومواضع متعددة مؤداها ان بلادنا لها خصوصية معينة تنفرد بها عن بقية البلاد.
إن هذه المقولة هي كلمة حق لا شك فيه ولا ريب، فلقد حبا الله سبحانه وتعالى هذه البلاد بفضله ومنه وكرمه ونعمائه وشرفها بأن تكون مهد الرسالة ومهبط الوحي ومنطلق الدعوة وموضع الحرمين وقبلة المسلمين في جميع اصقاع الارض ومهوى افئدتهم .
وهذا كله شرف ما بعده شرف، وتكريم ما بعده تكريم ولكن هذه الخصوصية لا ينغبي بأي شكل من الاشكال ان تمنحنا كافراد تميزاً دون سائر البشر، أو تفرداً عنهم أو استعلاء على احد منهم، ولكنها بالتأكيد تلقي على عواتقنا مسئوليات جسيمة وترتب علينا التزامات وواجبات كثيرة ومتعددة.
هذه الالتزامات والواجبات والمسئوليات تحتم علينا ان نكون قدوة في تصرفاتنا وسلوكنا، وفي اقوالنا وأفعالنا، في داخل بلادنا أ وفي خارجها.
وتتطلب منا ان نكون أمثلة يحتذى بها في العمل والإنتاج وفي العطاء والإبداع وتفرض علينا ان نكون صورة مشرفة تعكس المكانة الكبيرة التي تحتلها بلادنا في قلوب وافئدة المسلمين.
بهذا وبهذا فقط نستطيع أن نرتفع إلى مستوى التشريف والتكريم الذي حبا الله سبحانه وتعالى بلادنا به.
هذا بالنسبة لنا كأفراد أما بالنسبة لنا كمجتمع فإن هذه الخصوصية لا يجب بأي حال من الأحوال ان تعني انعزالنا عن العالم، وعزلنا عن التفاعل مع ما يتعرض له من تطورات أو ما يطرأ عليه من متغيرات وذلك بدعوى المحافظة على نقاوة النموذج الذي نتبناه وسلامة التجربة التي نطبقها لكي نضمن النجاح لتجربتنا الفريدة القائمة على تطبيق نظام إسلامي كمرتكز اساس لمجتمعنا خاصة ونحن على اعتاب السنين الأولى من القرن الحادي والعشرين ولكي نحافظ على قيمنا الأصيلة التي نعتز ونفخر بها، ولكي نرسخ النموذج الذي ارتضيناه لأنفسنا، ولكي تعبر خصوصيتنا أبلغ تعبير عن ثراء تجربتنا وسلامة نموذجنا لابد لنا ان نتبنى تصوراً يجعل من هذه التجربة قاعدة للانفتاح على العالم ويجعل من هذه الخصوصية مدخلاً للتكيف مع المتغيرات والمستجدات التي تطرأ في كل يوم وفي كل لحظة.
نستطيع أن نفعل ذلك كله بتحويل هذه التجربة وهذا النموذج وهذه الخصوصية إلى مشروع حضاري ينطلق من ثوابتنا ومرتكزاتنا الأساسية، ويتفاعل بإيجابية وفعالية مع قضايا العصر بالشكل الذي لا يجعله اساسا لوطننا فحسب، بل قدوة ونبراساً للمجتمعات الإسلامية بل لا نبالغ اذا قلنا للمجتمعات المتحضرة عموماً.
لا يجب ان ننسى ان لنا في تاريخنا المجيد خير عبرة ولنا في تراثنا الحضاري افضل درس، فرسالة الإسلام الخالدة التي انبثقت من ارضنا هذه ارض الجزيرة العربية لو انها تقوقعت وانكفأت على ذاتها لما قدر لها ان تبني الدولة الإسلامية المترامية الاطراف، او تشيد الحضارة الإسلامية التي اقامت العدل، ونشرت التمدن والرقي وبثت العلوم والمعارف في جميع ارجاء المعمورة ولكن تفاعلها الايجابي مع الحضارات الاخرى القائمة، وانفتاحها عليها بالتأثر والتأثير، وبالاخذ والعطاء هو الذي اتاح لها ان تبني تلك الدولة وأن تشيد تلك الحضارة.
ان خصوصيتنا الحضارية تستطيع ان تتمسك بكل ثوابت الإسلام، وأن تجاري في الوقت نفسه العالم ومتغيراته.. ان باستطاعتنا وبمقدرونا ان نحول خصوصيتنا إلى مضرب مثل للاستنارة والانفتاح بدلاً من ان نسمح لها ان تكون مضرب مثل في العزلة والانكفاء.
باختصار إذا كنا حريصين على ضرورة التمسك بخصوصيتنا فإننا في الوقت ذاته يجب ان نعمل على تنقية هذه الخصوصية من شوائب الانعزال وأن ننفض عنها عبارة الانغلاق وأن ننأى بها عن عقلية الحصار.
إن بوسع بلادنا بل من واجبها في هذه الظروف الحرجة وفي هذه الاوضاع الخطيرة ان تتمسك بثوابت الكتاب والسنة وان تجاري في ذات الوقت العصر ومتطلباته.
تماماً كما فعلت الأمة الإسلامية ايام مجدها وعزها وإبان عنفوانها وازدهارها.
على ان الأمر لا يقتصر على كل ذلك فحسب فإن مشروعنا الحضاري السعودي يتطلب منا بلورة رؤية واضحة للنظام الإقليمي السياسي والاقتصادي وللاوضاع الدولية الجديدة التي بدأت تتضح معالمها منذ انتهاء الحرب الباردة وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، وأن نتمكن من عرض رؤيتنا الجديدة هذه للعالم بشكل ايجابي ومقنع وعبر وسائل إعلامية قوية ومؤثرة.
ان ارتباطنا بالنظام الإقليمي وتكيفنا مع الأوضاع الدولية الجديدة يتطلب منا أن نتفهم العالم من حولنا بشكل افضل وذلك عن طريق تطوير مهارات التحليل وجمع المعلومات عن المتغيرات الهائلة في الاوضاع الإقليمية والدولية التي حدثت في الآونة الأخيرة، ويتطلب ذلك رصد وفهم التحولات العميقة للمصالح السياسية والاقتصادية والجيوبوليتكية التي تسود العالم الجديد الذي نعيش فيه.
بهذا الشكل وبهذه الروحية نستطيع أن نستعيد زمام المبادرة ونستطيع ان نعيد التوازن إلى المرتكزات الأساسية الثلاثة التي تستند إليها سياستنا الخارجية بل التي ينطلق منها مشروعنا الحضاري السعودي الذي نعتز به ونفخر.
أدعو الله العلي القدير ان يديم على بلادنا نعمة الأمن والاستقرار والرخاء والطمأنينة في ظل قيادتها الرشيدة انه سميع مجيب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
(*)مساعد وزير الخارجية
|