سقوط صنم ساحة الفردوس ألقى بظلاله على الكثير من القناعات السياسية السائدة لدى شعوب المنطقة العربية. وأهم ما أسفر عنه هذا الحدث التاريخي هو تهاوي وتهافت المفاهيم «الثورية» التي كانت في زمن ما تحمل شعارات التحرر والتقدم واللحاق بالشعوب المتحضرة.. وفي تقديري ان الإنسان العربي، بعد تجاربه المريرة مع الأنظمة التي كانت تتكئ على الفكرة الجمهورية الثورية، أصبح الآن لديه مجال للمقارنة، بين ما فعلت به هذه الجمهوريات وبين أوضاعه قبل أن تدلف إلى أرضه هذه المفاهيم. وفي الوقت ذاته لديه في المقابل تجارب عربية مغايرة لم تدّع «الثورية»، ولم تلبس لباس «غيفارا»، ولم تملأ الشوارع بالشعارات، ولم تعلق صور «القائد الفذ» في كل مكان من الوطن، ولم تشيد تماثيله في كل زاوية، ولم تزعم أنها ستأتي بما لم يأت به الأوائل. إنما عملت على تحقيق قدر من التنمية والاستقرار والتطور السياسي والاجتماعي، وإن ببطء وخطوات متثاقلة أحياناً، غير أن النتيجة التي نراها اليوم ماثلة للعيان هي أن الدول العربية التي تنتهج «الملكية» أو أنظمة شبيهة بالملكية، تأكد أنها أفضل من حيث الاستقرار والانفتاح السياسي النسبي والنمو الاجتماعي ومعدلات التنمية مقارنة بتلك التي اتخذت من الفكرة «الجمهورية» لباساً لها.. صحيح أن هناك بعض المآخذ والأخطاء على مستوى الممارسة والاجتهادات بالنسبة للأنظمة الملكية أو شبه الملكية في الوطن العربي، غير أن مقارنتها بالجمهوريات العربية تجعل منها أنظمة في غاية التحضر والتقدم حسب ما تحقق من الانجازات على الأرض عند الملكيات في مقابل ما تحقق لدى الجمهوريات.
والعراق اليوم يقف على مفترق طرق. وفكرة العودة إلى «النظام الملكي» هي إحدى الخيارات المطروحة تاريخياً فمنذ عام1921م وحتى 1958م كان العراق ذا نظام ملكي وانتهى هذا النظام عندما قاد عبد الكريم قاسم انقلاباً عسكرياً دموياً أدى إلى سقوط الملكية وإعلان الجمهورية عام 1958. وبسقوط الحكم الملكي تكررت الانقلابات الدموية والتي انتهت بقفز «حزب البعث» إلى السلطة، ومن ثم إطباق صدام حسين كفرد على الحكم في العراق بعد مجزرة دموية صفّى فيها كل منافسيه من البعثيين داخل الحزب الحاكم. الذي يهمني من ذلك أن النظام الملكي في العراق ليس جديداً على تاريخه المعاصر، بل إنه تقاسم مع الأنظمة الجمهورية نصف مدة الحكم تقريباً منذ أن نودي بالملك فيصل الأول ملكاً على العراق عام 1921 (النظام الملكي: 37 عاماً، والنظام الجمهوري: 45 عاماً) ورغم أن تاريخ الحكم الملكي في العراق تكتنفه بعض الممارسات القميئة والسيئة الذكر، وبالذات في علاقاته المشبوهة بالمستعمر البريطاني آنذاك، إلا أن هذه الفترة في المحصلة شهدت الكثير من الجهود الرائدة التي نتج عنها إرساء مؤسسات الدولة الحديثة، اضافة إلى أن هذه الحقبة من تاريخ العراق الحديث قد عرفت استقراراً اجتماعياً، وانفتاحاً سياسياً نسبياً، لم يعرفه العراقيون طوال تاريخهم، هذا فضلاً عن أن الفترة الملكية كانت شبه خالية من الصراعات الطائفية، وبالذات بين السنة والشيعة، والتي هي من أشد الاخطار التي تكاد تعصف بالعراق اليوم.
وجميع المراقبين والمحللين المعنيين بالشأن العراقي يتفقون على أن الفسيفساء الطائفية والقومية والعشائرية التي تتكون منها تركيبة الشعب العراقي، هي في حاجة إلى «دستور» غاية في الإحكام والانضباط يكون من شأنه منع تسلط فئة على فئة، بحيث يصبح «الوطن» هو الانتماء الذي يرتفع بالعراقيين فوق الانتماءات الطائفية والقومية والعشائرية. لذلك فإنني أجد أن «الملكية الدستورية » التي تعتمد الفكرة الديمقراطية كفلسفة، وكذلك كآلية لتسلم وممارسة السلطة بجميع تقسيماتها، ويقف فيها «الملك» كرمز لوحدة البلاد، وكحارس للدستور ووصي على تنفيذه، هي الخيار الأمثل للحالة العراقية اليوم، ولا سيما أن تجربة العصر الملكي تاريخياً كانت هي الأفضل والأغنى والأكثر استقراراً، هذا اضافة إلى أن «الدستور» المعول عليه في ضبط الفسيفساء العراقية من التفكك والتشرذم، لابد له من «حارس» تنحصر مهمته في حماية هذا الدستور من التجاوزات، ومن التغيير والتبديل من قبل الأطراف التي ستصل لاحقاً إلى الحكم، والذي سيكون «الملك» في هذه الحالة.
|