كتب الله لي في يوم من الأيام من عقد الثمانينيات ان أجلس في مقهى في واحد من أسواق مدينة استوكهولم في السويد. في غمرة وحدتي وضياعي في هواجيس الغربة السياحية، وطفشي من المدينة الباردة. دخلت مع جرسون في حديث بارد كأهله وبعد دردشات لا أتذكر منها الآن أي شيء قال لي: لماذا تجلس هنا؟ فقلت: وهل هناك محل أفضل من هذا للجلوس في انتظار الباخرة التي سوف تعيدني الى هلسنكي؟ فقال: هناك مكان ممتاز. بامكانك الذهاب اليه وستبقى واقفا ساعات ولن تندم أبداً.
منذ ذلك اليوم الأغر وأنا لا يمكن ان أنسى الجرسون الطيب.
كانت تلك هي المرة الأولى التي أحضر فيها مسابقة جمال على الهواء مباشرة. لا استطيع ان أصف لكم مشاعري وأحاسيسي ولا حتى هواجسي بعد ان انتهت المسابقة. ليس لأنني لا استطيع ولكن لأن الجريدة لن تنشرها أبداً.
تركت مقر المسابقة وراسي منقلب. لا أعرف كيف أجلسه على رقبتي بالصورة التي كان عليها قبل المسابقة. استمرت حالة رأسي عدة أسابيع لا أعرف متى عاد الى وضعه الطبيعي. وهل عاد فعلا الى وضعه الطبيعي، لأني نسيت الوضع الطبيعي الذي كان عليه قبل المسابقة. فآخر علمي برأسي في وضعه الطبيعي عندما نصحني الجرسون الطيب. منذ ذلك الحين والى يومنا هذا وأنا أحاول ان أتذكر وضع رأسي قبل المسابقة.
طول عمري وأنا أعمل على تقييم كل شيء يمر عليَّ. إذا شاهدت رتلا من السيارات أحدد أيهم الأفضل وإذا شاهدت حشداً من النعاج أحدد أيها ألحم وإذا شاهدت فريقا من اللاعبين أحدد أيهم أبرع وهكذا سنوات طويلة. فهذه ملكة اكتسبتها من تجوالي وحدي في أوروبا وخصوصاً عند جلوسي فترات طويلة في المطارات انتظر اقلاع الطائرة. يعني استطيع ان أدعي أنني يمكن ان أكون حكما في كثير من نواحي الحياة باستثناء مسابقات الجمال.
لا يمكن ان أصدر حكما في مسابقة كهذه ليس لأني رجل طيب القلب ولا أريد لأحد ان يخرج مهزوما ولكن لأني لم أجد الفرق المعتاد في الجمال. فعقليتي الكلاسيكية أطيح بها في ذلك اليوم الأغر. وأزيلت مقاييسي الساذجة. كنت قبلها أقدر الجمال بمقاييس التي نعرفها جميعا: مثل جمال الوجه ولون البشرة ودرجة السمنة والعيون وغيرها مما تعرفون. أمام تلك النسوة اندحرت تلك المقاييس وانزلقت ملكاتي المنطقية في ممر تضيئه فوانيس الكون كلها.
لكي تكون حكما في مثل هذه المسابقة عليك ان تطور ملكات البحث عن القبح ولا عن الجمال. والأهم ان تكون صلبا في مواجهة التلكوء عند أي منهن. كأنك تقود سيارتك في كثبان الربع الخالي فأي ابطاء أو تهدئة يعني أنك مغرز مغرز.
صادف ان كان يقف الى جانبي امرأة كولومبية جميلة «جميلة بمقاييسي الكلاسيكية» لم تستطع ان تتمالك نفسها عندما بدأت الفتيات في الاستعراض. فصرخت في وجهي ماذا تقول أيها السيد؟. قلت: ما أقول إلا حسبي الله ونعم الوكيل.
خرجت أنا وهي ببؤس المهزومين. كنت حائراً بين ذلك الجمال المذهل وبين أخلاقياتي الانسانية. كان عرضا كعرض السيارات وعرض الأجهزة.
فاكس: 4702164
|