ما زالت مواقف ما يسمى بالنخب الفكرية المعاصرة تجد صعوبة في الفصل بين الإيمان بالرأي المتحرر او المحافظ كخيار أحادي، وكحل حتمي للقضايا المعاصرة، والإيمان بحرية الرأي مهما كانت محافظته أو تحرره أو حتى تطرفه إن خلا من الدعوة للعنف والكراهية والبغضاء، وتواجه لبساً في التمييز بين الدعوة لجمود أو لتحطيم القيود الاجتماعية المحافظة أو الاكتفاء برفع أصل «كل نفس بما كسبت رهينة»..
ولعل عدم استطاعة المثقف العربي الاستقلال عن تأثيرات السلطة، أدى به إلى السعي نحو الوصول إلى أهداف غايته عبر أي وسيلة كانت، وإلى إتقان اللعب على أوتار تقلبات هواها ورغباتها في التغيير الاستراتيجي المناسب، سواء كان فكرياً أو عقدياً أو اجتماعياً، وتلك الأصوات التي تنطلق من بين الصفوف، لاقتناص فرص التغيير واصطياد رسن الاقصاء للتيارات الأخرى، وفرض رؤيتها الأحادية لا تزال حاضرة بقوة في ثنايا الخطابات العربية، والاقصاء كمنهج ظهر في اوج صورة في عصر المأمون، ليعود مرة اخرى في عهد المتوكل مستغلاً توجه الخليفة الجديد، لتتعدد صراعات العنف والإقصاء بانتصار القرامطة والفاطميين، ثم الأشاعرة مع قدوم صلاح الدين، لتعود السلفية للمجد مرة أخرى بعد نجاحها في بث القدرة على التغيير السياسي في العالم العربي، ثم يخرج البعث العربي والقومية العربية كشعار جديد للوحدة ضد أهداف الاستعمار في القرن العشرين، ليستمر انقلاب الرأي النخبوي حسب اشارات سلطوية سمة عربية في الماضي والحاضر، فالبعث كان الشعار المقدس في عراق الأمس، والشعارات الطائفية والعلمانية والليبرالية هي عناوين الشعارات السياسية في عراق الفوضى اليوم، ولكن الحاكم الجديد سيفرض حتماً على الجميع منهجه الليبرالي الضيق، وإن ارتفعت اللافتات التي تنادي برحيله، فالتغيير كمطلب شعبي جاء على ظهر دبابته وعبر اختراقات طائرته لأجواء البلد الذي عاش تحت ظل الاستبداد والإقصاء لعقود..،
والليبرالية هي التوجه الجديد في المنطقة، ويبدو أنها تحمل في طي نسختها العربية، نهجاً إقصائياً جديداً لكل من يؤمن بفكرة مخالفة للمنهج الجديد، فالحملة التي يشنها البعض على الآراء الإسلامية والعروبية المناهضة للحرب علناً، واتهامهم إياهم بالتخلف ومناهضة الحرية الجديدة قد تدل على عزم التيار الجديد على عدم التخلي عن موروث لإقصاء المتأصل في الثقافة العربية ويستند الطرح الاستئصالي الجديد الى حجج مفادها ان الفكر العربي الإسلامي تيار معادٍ للديمقراطية بطبيعته، ويُعتبر عائقاً من عوائق تحقيقها وتقدمها في البلاد العربية. وتبرر عمليات الاستئصال الطرف الأصولي المعادي، باعتبارها مقدمة ضرورية لتحقيق الديمقراطية والانتصار لقيم الحداثة والمعاصرة، او باعتبارها خطوة ضرورية «للحفاظ على الدولة»، وحماية المجتمع من المد الأصولي الغاضب.. ويذهب البعض الى ان العنف جزء من البنية الفكرية والعقدية للإسلاميين، بينما يبرهن لنا الواقع ان العنف ليس له صلة مباشرة بالعقيدة، أو البناء الفكري، وإنما هو جزء من أزمة المجتمع، فالتيارات الأخرى أيضاً توظف بطريقة غير مباشرة الاستبداد الفكري كوسيلة لفرض فلسفتها الاجتماعية او الاقتصادية..!ولأسباب أجهلها، لم يستطع الفكر العربي التخلص من هذا الإرث الخبيث، ولم يصل الى قناعة ان محاولة الإقصاء للآخر المنافس من خلال السلطة، لم يعد نهجاً نافعاً، وان جدواه وفوائده على «النخبة» او القلة المستفيدة لا تستمر زمناً طويلاً، ولا تخلف إلا العداء المستتر من الآخر المقصي، الذي عادة يدخل بياته الدوري في مقاعد الخلف، وينتظر فرصة جديدة ليفعل الشيء ذاته مع الكاسب الجديد في معركة الرأي الرسمي في الحاضر..
ولأسباب أخرى يصعب تحديدها، لم يقدم أي من التيارات المتصارعة في الحاضر طرحاً جديداً يدعو للتسامح، وينبذ الإقصاء والعنف الفكري والسياسي، ولم يجاهد من اجل الاتفاق على آليات تحفظ حقوقه الطبيعية، وعلى أولويات تشرع ان جميع الناس ولدوا أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وان الله وهبهم جميعاً العقل والفطرة الحسنة، لذا عليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء. وأنه لا يجوز إخضاع أحد للإقصاء أو المعاملة السيئة أو اللاإنسانية.
ولم تتفق بياناتهم على دستور مضمونه، ان الناس جميعاً متساوون أمام القضاء، وفي حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون في حق الحماية من أي ممارسات تنتهك خصوصيتهم وحقوقهم المشروعة، وان لكل شخص حقاً في حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية.. وحقاً في الضمان الاجتماعي بوصفه عضوا في المجتمع، ومن حقه ايضا ان توفر له، وبما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في جو من الحرية المكفولة.. والعمل على إزالة جميع المعوقات المتعلقة بالحصول على المعلومات على المستوى الوطني حول المشاريع والمبادرات المقترحة من قبل الحكومة لتعزيز الحق في التنمية، والحواجز المتعلقة بالمشاركة في عمليات صنع القرار، بالإضافة الى تلك المتعلقة بالحصول على المعلومات حول مواضيع أخرى، مثل دراسات الآثار البيئية والصحية على المجتمع، والصرف على الأمور الاجتماعية، ومشاريع التنمية الصناعية، والسياسات التجارية..
والشريعة الإسلامية اطلقت مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، ودعمت الحرية العامة بكل أشكالها الدينية، وضمنت حرية الرأي والتعبير عن الذات، واحترام حياة الإنسان {ومن احياها فكانما احيا الناس جميعاً} [المائدة: 32] وأكدت أن للإنسان حقوقا وحريات أساسية في وقت لم يكن له حقوق او حرية تجاه السلطة.. ومع ذلك تخلو أطروحات كثير من المفكرين الإسلاميين من الدعوة لمنهج مضمونه الحرية والسلام والتسامح، وقد يتساءل البعض عن شيوع انتهاك حقوق الإنسان والحريات في بعض أجزاء العالم الإسلامي، وهو تساؤل في محله، ويأتي الرد باستمرار ان هذه المخالفات والاجتهادات مخالفة للمبادئ التي نادى بها الإسلام وطبقت في عصره الذهبي. لذا فهو ليس مسؤولاً عما يقوم به بعض المسلمين في ارتكاب مخالفات ومحظورات شرعية، ولكن مع ذلك يظل ذلك التناقض بين النظرية والتطبيق علامة على عدم الثقة بين الشعوب والسلطات في الشرق العربي، ويؤكد الحاجة الماسة لتقنين هذه المبادئ العظيمة في دستور تضمن تطبيقه آليات مستقلة.. عن الاجتهادات الشخصية..!والبيان الأخير الذي صدر تحت شعار الحملة العالمية لمقاومة العدوان ووقعه مفكرون إسلاميون، أغلبهم سعوديون أكد قدسية الحفاظ على كرامة الإنسان «التي صانتها جميع الشرائع والأديان، والعهود والمواثيق الدولية»، ونادى من خلال بيانه الى العمل على التواصل الفعال مع الشعوب والمؤسسات والهيئات العالمية الرافضة للظلم والتسلط على الشعوب وثرواتها..وهو ما يعني للمتابع، اعترافهم بقبول «آلية» الدستور، واحترام مضامين الشرائع والعهود والمواثيق الدولية، وتسليمهم بضرورة تقنين مبادئها.. وإيمانهم بأهمية التواصل مع الآخر غير المسلم، من أجل قضية كرامة الإنسان واستقلال ذاته وحريته، ولنا ان نتساءل عن سرّ غياب تلك الرؤية الموضوعية لكرامة الإنسان وحريته في الداخل.. وما المانع من ايجاد ارضية أو آلية دستورية للتواصل مع من يختلفون معه محلياً، وهل العزة باثم الإقصاء، اختطفتهم من الشأن المحلي إلى حيث أجواء الحرية والمساواة والإخاء الإنساني في عالم الفضاء.
|