كانت حياته استثنائية.. فقد عاش شطرها مغترباً ثم مات- كذلك- مغترباً.. فكانت وفاته أيضاً استثنائية.
وبين الاستثناءين شُهد له بالخلق العالي والتعامل المترف مع مخالفيه قبل مؤلفيه.
هذا هو «أبو أحمد» محمد بن أحمد الرشيد سفير المملكة في ساحل العاج الذي قضى نحبه في ظرف قاس في بلاد بعيدة.. وحيداً فريداً صباح يوم الجمعة 25/1/1424هـ.
لا أرثيه لأنه عمي- وحسبي بالعمومة داعية إلى الرثاء- بل لأنه أهلٌ لأن يُرثى ويؤبّن، وتنشر محاسنه التي لم يكن يعبأ هو بنشرها في حياته.
حينما بلغني نعيه المرّ تذكرت أبيات علي بن الجهم:
وارحمتا للغريب في البلد
زح ماذا بنفسه صنعا؟!
فارق أحبابه فما انتفعوا
بالعيش من بعده وما انتفعا
كان عزيزاً بقرب دارهم
حتى إذا ما تباعدوا خشعا
وكان يبكي من الفراق إذا
حُدِِّث عنه، فكيف إذ وقعا؟
يقول في نأيه وغربته:
عدلٌ من الله كلّ ما صنعا
|
كان -رحمه الله- مثالا في لين الجانب ودماثة الخلق، وقد كشفت وفاته أخلاقا أخر يندر وجودها:
كان يخفي مكانته بين الناس، غير تياه ولا مصعر الخد، ولم أكن الأوحد في المفاجأة بذلك الحشد من المسؤولين الكبار الذين هرعوا للتعزية فيه، فضلاً عن أصدقائه الكثيرين ومعارفه.
وكان كل واحد من أصدقائه وزملائه- كما قال أحدهم- يظن أنه أقرب الناس إليه.
وهاتان صفتان - وإن بدتا سهلتين- يصعب تحقيقهما فأما الصفة الأولى فلأن المرء مجبول على حب التباهي بالمكانة وكم من فاقد لها يتظاهر بها، فإذا تحققت وتسامى المرء عليها كان نسيجاً وحده وبخاصة في هذا الزمن الذي أصبح كثير من أهله يتشبعون بما لم يعطوا ويفنون أعمارهم طمعاً في امتلاك ما لا يستحقون.
و «محمد بن أحمد الرشيد» كان ممن يتسامى على السمو، ويتعالى على التعالي، رضي بأن يعمل صامتاً، ويبذل صامتاً، فكانت ميتته صاخبة.
وكان خافت الصوت- على مقدرة- فأبى الله إلا أن تعلن وفاته على رؤوس الأشهاد.
أما الصفة الأخرى فإن النفس لا تقبل على كل أحد بوجه واحد ملؤه البشر والطلاقة واللين، إلا بعد رياضة قاسية ومغالبة للنوازع والأهواء.
و «محمد بن أحمد الرشيد» كان ممن راض نفسه البشرية الضعيفة على الأنس بالناس كلهم، فلم يشعر أحد ممن لقيه إلا أنه محب له وسع الناس بشره، فوسع كثيراً منهم الحزن عليه والفجيعة به.
وكان يبذل فضل قدرته وجاهه لمن سأله ولمن لم يسأله، ولكل من احتاج إليه وأمكنه نفعه، وإن لم يعتمده بالرغبة، ولم يُشْعِر نفسه انتظار مقارضة من أحد على ذلك.«1»
لقد كان - في شيوع كثير من محاسنه بعد وفاته- أشبه بزهرة فواحة، زاد أريجها بعد أن ذبلت وتفتتت، أو كقارورة عطر ملأ الجو عطرها بعد أن انكسرت:
فتأمل كيف يغشى
مقلة المجد النعاسُ
ويُفتّ المسك في الترب
فيوطا ويداس
وقد ثلجت صدور تبين لها أن للفقيد - رحمه الله- أعمال بر لم يعلم بها إلا قلة من المقربين إليه:
فقد دعم إنشاء مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم في الهند إبان عمله هناك قنصلا في السفارة السعودية.
وكان يداً لمكتب الدعوة في غرب إفريقية، يعين على الخير، ويسهل السبل للعاملين فيه- بشهادة مديره- وقد تظهر في قوادم الأيام أعمال خيّرة وآثار نبيلة.
وبعد:
فقد جاء في الأثر- ما معناه: «إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه منزلة القائم الصائم». اللهم فاجعل عبدك الضعيف ممن غفرت لهم بحسن خلقهم وكريم خصالهم وتجاوز عنه- وعنا وكلنا مذنب خطاء- بكرمك ومنك.
اللهم واجعله ممن استمر عمله بصدقة جارية وأولاد صالحين يدعون له.
«1» هذه الفقرة من كلام ابن حزم في الأخلاق والسير.
|