لم يجانب الحقيقة من يرى أن العقل الغربي قد أضعف، وقوّضت أركانه من الداخل والخارج، بسبب فقدانه إيمانه بنفسه، وثقته بذاته، هذا المآل ادى بطبيعة الحال إلى استنزاف تراثه الصالح للاستعمال، فظل يحتفظ بمعرفة سطحية لم تسلمه إلا إلى الشك والريبة والتدهور في القيم.
وتكمن خطورة هذا المزلق الذي انزلق به الإنسان الغربي في تسربه الى العقلية العربية الظامئة إن لم تكن تشربتها، لاسيما في هذه الأزمة الراهنة في العلاقات الدولية التي أدت فيما أدت إليه إلى تصادم بين الحضارات وصراع في قيمها، فالشعوب على وجه العموم، شرقيها وغربيها منيت بصدمات أخلاقية، وانتكاسات إنسانية، وانقسامات سياسية غير مسبوقة في تاريخ العصر الحديث، هذه الصدمات سلبت حياتها وستسلبها كثيرا من القيم التي بنت عليها أعظم حضارة مادية عرفت على وجه الأرض، هذه الحضارة التي بوأت الإنسان مكانة لم يعرفها من قبل.
وإذا كان الإيمان بالدين والاستنارة بالتاريخ، هما المعوّل عليهما للخروج بهذا الإنسان المعاصر من أزمة نفسية يعانيها، بوصف العامل الأول يعيد إلى نفسه السكينة والصفاء الروحي، والثاني: يرسم له الصورة الطبيعية لعملية التطور البشري. إذا كان الأمر كذلك، فإن هناك شعارات غربية: كالمساواة، والحرية، والعدل، ومحاربة الفقر، والاستقلال، والعولمة اتخذها الإنسان المعاصر للأسف غاية، دون نظر إلى أنها لا تعدو كونها وسائل توفر للإنسان القدرة على بلوغ أهدافه في الحياة وقيمها.
صحيح أن هذه الشعارات نبتت في مجتمعات موفورة في ثرائها، واسعة في رخائها، مزدهرة في نمائها، لكنها والحكم للتاريخ ستؤل بها إلى مجتمعات سوقية، وصحراء خاوية، تخلو من الروحانيات، عاجلاً أو آجلاً، وسنجد هذه المجتمعات أمام النكبات تسعى جاهدة للبحث عن قيم تجمع بين الشرق والغرب في حظيرة من الإيمان المشترك.وفي سياق من النقد الموضوعي الهادف للفلسفة الوضعية، يلتفت (جود) إلى تلك الظاهرة ليقول: (لا تستطيع أية جماعة أو طائفة أو مجتمع الحفاظ على بقائها ونقائها ما لم تؤمن الإيمان العميق بأن هناك اشياء خاطئة، كالقتل، والقسوة، والكذب، والغدر، والخيانة...).
ولفتة كهذه تبرهن على أن الإنسان المعاصر بأمس الحاجة الى منهاج فكري متكامل قادر على التكيف مع الظروف الراهنة ومتطلبات العصر، يضرب بجذوره في تربة العلم، ويكون مع ذلك قادرا على تزويد الإنسان بالقيم والمثل التي ينشدها في دنياه وآخرته. وليس ببعيد أن تكون تلك الكوارث التي تمر بالإنسان المعاصر ستنعش اهتمامه بالدين، بل ربما تكون هي السبب في عودة الشعوب المسلمة وغير المسلمة إلى تراثها الديني، لتستعيد حياة ملؤها الإيمان والطمأنينة.
|