منذ أن أعلن العالم الجليل الشيخ محمد نصيف - أمد الله في أجله ونفعنا بعلمه وجهاده في سبيل الكلمة عن استعداده لجعل مكتبته الغنية بأمهات الكتب ونفائس المخطوطات والصفحات الأدبية تشيد بهذه البادرة الطيبة من الرجل الطيب، وقد نوهت هذه الصفحة بجريدة الجزيرة بذلك العمل الجليل وحمدت للأدباء والكتاب وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله الفيصل الذي سارع بالتبرع بمبلغ ضخم ليدفع بالفكرة خطوات إلى الأمام تدخلها حيز العمل.
ولكل حادثة حديث كما يقول المثل. فمكتبة الشيخ محمد نصيف أشهر وأعرف من أن يعرف بها وقد كانت دائماً منهلاً لطلاب العلم حيث كانوا يجدون المحبة والترحيب قبل أن يستقر بهم مجلس الرجل، أما الان والمكتبة بصدد الصيرورة إلى مكتبة عامة، وعلى الرغم من ثقتنا فيمن سيتولى أمانتها إلا أني حريص على قصر حديث اليوم على ضرورة اليقظة البالغة في صون وحفظ هذا التراث الثقافي الضخم الذي نعتز به في هذا البلد الذي انبثق منه النور والهداية والرشاد.
وإذا كان في الامكان تعويض ما يفقد من المكتبة من الكتب المطبوعة أكثر من طبعة، فإن من الاستحالة بمكان تعويض صفحة واحدة من كتاب مخطوط لم ير النور بعد وربما كان النسخة الوحيدة في العالم.
فالشيخ نصيف قد قضى من ماله وشبابه وصحته ونور عينيه الكثير من جمع هذا التراث أولاً والحفاظ عليه ثانياً، ولم يكن من السهل والمكتبة تحت رعايته أن تمتد إليها يد متلصص عدا ما ليس للانسان فيه حيلة كالحريق ودابة الأرض ومرور الأيام.
أما إذا جعلت المكتبة عامة وأعطى الحق لكل انسان ولوجها، فهنا يجب أن تنفتح أعين الأمناء على آخرها
فتسرب المخطوطات من المكتبات بعد أن تتحول من يد أصحابها إلى مكتبات عامة أمر مألوف ويحدث في كل زمان فمكتبات علماء مكة والمدينة ونجد كانت في حرز حريز دائماً طالما ظلت في يد العالم وورثته من بعده، ولكن ما أن تتسلمها أيد أخرى حتى تسلمها للضياع عن غير قصد غالباً، فلدينا أدلة من مكتبات عارف حكمت والمكتبة الحمودية بالمدينة المنورة ومكتبة الحرم بمكة المكرمة.
وأذكر أن البروفيسور التركي فؤاد سيزجين أستاذ العلوم الطبيعية عند العرب بجامعة فرانكفورت بألمانيا قام بزيارة للمملكة منذ ثلاثة أعوام وزارنا بجامعة الرياض، وألقى محاضرة في المكتبة المركزية، وكان مما قاله البروفيسور فؤاد أنه قام بزيارة مكتبة المسجد الحرام ووجد بغيته من المخطوطات القيمة النادرة في مكتبة الحرم يرجع تاريخ بعضها إلى القرن الرابع الهجري.
وتساءلت يومئذ في حديث لي من إذاعة الرياض عن المخطوطات عما عنى البروفيسور بجملة وجد بغيته؟ هل أخذ بغيته أخذ مطالع واستفاد منها فقط، أم أن كرم أمناء مكتبة الحرم حملهم على اهداء بغيته إليه؟ ورجوت ألا يكون الكرم قد وصل بالأمناء إلى درجة التفريط في تراثنا، ورجوت أن يكذب ظني وأن تظل تلك المخطوطات في مكانها المكين من المكتبة العتيدة.
ثم حدث أن اشتريت بعد ذلك الحديث الإذاعي بأيام كتيب «اغاثة الأمة بكشف الغمة» لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي، وهو كتيب على الرغم من صغر حجمه إلا أنه وعاء مليء بفوائد تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية ندر أن توجد في غيره من المجلدات إلى جانب أنه يؤرخ لفترة تعتبر من أخطر الفترات التي مرت بالعالم الإسلامي وهي القرن الثامن الهجري.
وكانت الفاجعة في آخر الكتيب ان اكتشفت أنه كان مخطوطة في أحد مساجد جدة المحروسة واليك ما جاء في الأسطر الأخير بالنص:
«ووافق الفراغ من تسويدها في اليوم التاسع عشر من شعبان المكرم سنة 1101هـ على يد أفقر العباد محمد الشهير بالقطري أمام جامع الوزير وخطيبه ببندر جدة المحروسة». وهكذا خرجت مسودة اغاثة الأمة من جامع الخطيب بجدة لتطبع في بلد عربي ويقدم لها أحد الدكاترة الكبار دون حتى أن يشيد بفضل السبق في تسويدها للقطري.
وموقف آخر أدهشني وهو ما جاء في رسالة الماجستير للأستاذ محمد علي من كلية آداب القاهرة، وكان موضوع رسالته عن الشاعر الحيري «عدي بن زيد العبادي» فقد قال الهاشمي في صفحتي «83 - 84» من كتابه عند حديثه عن المجموعات الشعرية لعدي:
«وكتب إلى العالم الأديب الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار من مكة المكرمة في رجب عام 1382هـ يقول: إن ديوان عدي بن زيد كان إلى سنوات خلت في مكتبة شيخ الإسلام بالمدينة المنورة، وأنه نقل منه بخطه أبياتاً، ولا يدري أهو موجود الآن» أم فقد مع ما فقد.
يقول الهاشمي: فشددت الرحال إلى المدينة المنورة، وبحثت عن الديوان المذكور في مكتبة شيخ الإسلام ومكتبة الحمودية وغيرهما من مكتبات المدينة المنورة فلم أعثر عليه.
وحديث اليوم عن المخطوطات أسوقه إلى من سيتولون أمانة مكتبة الشيخ نصيف عندما تتحول إلى مكتبة عامة ومع أنه لا حاجة إلى توصية حريص إلا أني أرجو ويرجو معي القراء أن لا نقرأ يوماً عن نسخة كانت موجودة في مكتبة الشيخ نصيف فاختفت، فالحفاظ على تراثنا الفكري واجب خطير وكبير وجليل، وقانا الله شر الإفراط والتفريط.
|