تُمثل إشكالية (الأمية).. حاجزاً حضارياً، وعائقاً من عوائق العمل التنموي، ورغم كل الجهود التي بُذلت في هذا المجال الا ان ضعف الإقبال على برامج محو الأمية التقليدية المسائية، وارتفاع نسبة التسرب بين الدارسين الذي يصل الى 70% أدَّى إلى انخفاض قيمة العائد مقارنة بالأموال والجهود المبذولة، وبالتالي كان لابد من إيجاد نمط دراسي جديد يكون أكثر فاعلية في القضاء على الأمية وسد منافذها.. وقد استطاعت فكرة رائدة الهدف منها تحفيز الكبار على التعليم والانتظام في الدراسة، وذلك بتحويل الدراسة في مراكز محو الأميَّة المسائية إلى الفترة الصباحية، واعتبار الجلوس في مقاعد الدراسة جزءاً من الدوام اليومي للدارسين، وعلى الرغم من أن تكلفة الدراسة الصباحية أقل بكثير من الدراسة المسائية إلا أنَّ النتائج جاءت مذهلة، فنسبة التسرب تحوَّلت من (70%) إلى (صفر%)، بالإضافة الى الزيادة الملحوظة في مستوى التحصيل العلمي والمهاري للدارسين، كما أنَّ تقارير الأولوية والكتائب العسكرية تشير إلى أن الكفاءة العملية ارتفعت لدى الأفراد الدارسين، وتحسنت أساليب تعاملهم مع قادتهم، وزملائهم.
حول أبعاد هذه التجربة وأسباب نجاحها كانت لنا هذه اللقاءات خلال جولتنا في أحد هذه المراكز.
دور حضاري.. وتجربة فريدة
الأستاذ فيصل بن عبدالرحمن بن معمر وكيل الحرس الوطني للشؤون الثقافية والتعليمية أشاد بالدور الكبير الذي يقوم به صاحب السمو الملكي الفريق أول ركن متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز نائب رئيس الحرس الوطني المساعد للشؤون العسكرية لدعم هذه التجربة الفريدة التي تعد امتداداً للدور الحضاري الذي يقوم به الحرس الوطني بتوجيهات من سمو ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني، مضيفا: ان سموه يولي مسألة القضاء على الأمية بين منسوبي الحرس الوطني العسكريين اهتماماً خاصاً، لإيمان سموه بأن الأجيال الصاعدة لا يمكن تربيتها تربية سليمة في وسط يغلب عليه الجهل والأميَّة، وأن العسكريين هم أولى الشرائح للتسلح بسلاح العلم.
وأشار المعمر إلى النجاح الكبير لهذه التجربة والنتائج الباهرة التي حققتها والتي كما يقول جعلتنا نتوسع في افتتاح هذه المراكز الصباحية حتى بلغ عددها (10) مراكز تضم (67) فصلاً، يدرس بها (296 ،2) دارساً، ووصلت نسبة الانتظام الى (100%)، وقد أبدى الكثير من المسؤولين عن التعليم داخل المملكة وخارجها اهتمامهم الكبير بتجربة مراكز تعليم الكبار الصباحية في الحرس الوطني، باعتبارها تجربة فريدة ومتميزة، وتستقبل وكالة الشؤون الثقافية والتعليمية العديد من استفسارات الجهات التعليمية والعسكرية حول التجربة رغبةً في تطبيقها، والإفادة منها.
وبيَّن ابن معمر: أنَّ الحرس الوطني بذل ويبذل جهوداً جبارة في مجال محو الأمية عن بعض منسوبيه والتي ستُثمر إن شاء الله القضاء على الأمية تماماً نهاية العام الدراسي 1424 1425ه، مؤكداً أن الحرس الوطني هو أول مؤسسة عسكرية في العالم تحصل على جائزة المجلس العالمي لتعليم الكبار عام 1999.
تأهيل خاص للمعلمين
مدير عام الشؤون التعليمية بالحرس الوطني الدكتور فهد السلطان قال: إنَّ هذه المراكز تهدف إلى إكساب الدارسين مهارات التعليم الذاتي، والمهارات الأساسية في القراءة والكتابة، والمواد الشرعية والعربية، والعلوم، والرياضيات، والاتجاهات الاجتماعية السليمة، والمهارات المرتبطة بالأسرة والصحة العامة والعمل، وإنارة الوعي بمختلف القضايا والموضوعات التي تدور حولهم في مساحتهم المحلية والوطنية والعالمية، وأوضح: أن الإشراف التربوي والتعليمي والإداري على هذه المراكز تتولاه وكالة الشؤون الثقافية بالتنسيق مع الجهاز العسكري الذي يقوم بمتابعة انتظام الدارسين، وتأمين المواصلات لهم، وأن الدراسة تكون بمعدل ساعتين إلى ثلاث ساعات يومياً.
وأضاف السلطان: ان المشرفين التربويين يتابعون سير الدراسة في المراكز الصباحية كجزء من واجباتهم الوظيفية، وبدون متطلبات مالية إضافية، كما نحرص على اختيار المعلمين الأكفاء، وإقامة دورات تأهيلية خاصة للتعامل مع الدارسين الكبار والعسكريين.
إنتاجية.. وانضباط
أما العميد عبدالله التميمي مدير عام سلاح الفرسان بالنيابة وقائد كتيبة الفرسان فقال: إن المتتبع للنهضة التعليمية التي عمَّت بفضل الله أرجاء هذه البلاد يدرك بكل عدل ما للحرس الوطني من دور هام جداً فيها، فلقد استقطب أبناء البادية والحاضرة، وأنشأ المرافق التعليمية المختلفة للبنين والبنات، وتجاوز مرحلة تعليم الكبار ليلاً بتحويل العديد منها الى مراكز تعليم صباحية داخل القطاعات العسكرية، وضمن ساعات الدوام الرسمي.
وقد أثَّر ذلك بصورة إيجابية واضحة على الفرد المتلقي لتلك الدراسة، فاندفع في حماس للنهل من ينابيع العلم، وتوسعت مداركه، وتحسّنت سلوكياته، وبالتالي إنتاجيته وانضباطيته، بل إن العديد ممن تخرجوا من تلك المراكز واصلوا دراساتهم اللاحقة مشمرين عن السواعد لنيل الدرجات العليا، ولولا توفيق الله ثم الأفكار والسواعد في وكالة الشؤون الثقافية والتعليمية لما وصل التعليم وعلى الأخص تعليم الكبار بين منسوبي الحرس الوطني لهذا المستوى العالي، فلقد ترسخت في نفسية الفرد بالحرس الوطني نظرية بأن يكون متعلماً خير له من أن يكون جاهلاً منهزم النفس، فالعلم أول أسلحة انتصار الإسلام على العدو، عدو النفس والدين والأرض.
متابعة جادة.. حوافز متنوعة
انتقلنا بعد ذلك إلى جولة داخل أحد مراكز تعليم الكبار الصباحية، والتقينا أولاً بمدير مركز عبدالرحمن بن عوف بكتيبة الفرسان الأستاذ حمد بن محمد الناصر، الذي أكد أن شعور الدارس بمتابعة جادة من قيادته، والزيارات المتكررة من قبل المشرفين التربويين، والتنسيق بين إدارة المركز وقيادة اللواء أو الكتيبة، وكون الدراسة أثناء الدوام مما يسهل على الدارس الحضور وعدم التخلف، وكذلك ما تقدمه قيادة الكتيبة من حوافز متنوعة للدارسين كل هذه عوامل ساعدت على النجاح الكبير لتجربة مراكز تعليم الكبار الصباحية.
وأضاف الناصر: انه بالإضافة إلى المناهج الدراسية فإن المركز يشارك التوعية لمختلف الفعاليات والمناسبات مثل أسبوع المرور، والتوعية باضرار المخدرات وغير ذلك من جوانب التوعية الدينية والصحية والاجتماعية.
حماس.. واجتهاد.. وتفوق
التقينا بعد ذلك بمجموعة من الدارسين لنأخذ آراءهم وانطباعاتهم حول التجربة حيث تحدث أولاً الجندي مطر سميِّر المطيري، الذي يدرس بالسنة الثانية فقال: إنني درست مدة سنتين في مراكز محو الأمية المسائية ولكني للأسف في كل سنة لا أكمل الدراسة، ولا أستطيع الانتظام بسبب المشاغل الحياتية المرتبطة بالالتزامات الأسرية، والاستلامات العسكرية، ولكن بعد افتتاح هذه المراكز الصباحية حرصتُ على الانتظام في فصولها، ولم أجد عناءً ولا صعوبة في الحضور والاستيعاب والدراسة، فهي تعينني على التعلم.
أما الجندي ماجد أحمد هزازي، الذي سيحصل على الشهادة الابتدائية هذا العام فقال: إنني كنت أحاول الدراسة في المراكز المسائية خلال الأعوام الماضية، ولكني لم أستطع الانتظام، ولا أحضر في الأسبوع إلا مرة أو مرتين، وبدون حماس ورغبة في التعلم.. نظراً لقلة الحضور الذي لم يكن يتجاوز خمسة أو ستة دارسين في الفصل، حتى المعلم لا يكون لديه الحماس في الشرح نظراً لقلة الحضور، وحتى لو استطاع الدارس أن ينجح في المراكز المسائية فإن درجته تكون منخفضة جداً، وينجح بصعوبة، وبتحصيل متدنٍ، أما في المراكز الصباحية فأصبحنا ننجح بتفوق ونستفيد من حضورنا فائدة كبيرة.
ويؤكد الجندي طاهر علي السبيعي، على ما قاله زملاؤه مضيفاً أنه حاول الدراسة في المراكز المسائية واستمرت محاولاته لمدة عشر سنوات ولكن دون جدوى، فهناك صعوبة كبيرة في الانتظام، ولا يوجد حوافز، ولم استطع حتى القراءة والكتابة، أما الآن وبعد سنتين من الانتظام في المراكز الصباحية اصبحت أقرأ وأكتب وأعلم نفسي ذاتياً.
لقطات من الجولة
أبدى عدد من الدارسين رغبتهم في فتح مراكز مماثلة للمرحلة المتوسطة والثانوية ليتسنى لهم إكمال دراستهم.
الجندي أحمد طفيل البلادي، يستعد للحصول على الشهادة الابتدائية هذا العام بعد أن حصل على الخامس ابتدائي عام 1405ه ومنذ ذلك العام وهو يحاول الانتظام في الدراسة ولكن لم تساعده ظروف التعليم المسائي..!
أثنى عدد من المعلمين على حماس الدارسين وحرصهم على التعليم، والاستفادة.
الشؤون العسكرية في الحرس الوطني تبذل جهوداً جبارة من أجل حث الدارسين على الانتظام في الدراسة ومتابعتهم وتوفير الأجواء التعليمية المريحة لهم بتوجيهات من صاحب السمو الملكي الفريق أول ركن متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز نائب رئيس الحرس الوطني المساعد للشؤون العسكرية.
من خلال جولتنا على الفصول لاحظنا أن مستوى الدارسين مميز جدا من خلال قراءتهم الجيدة وخطوطهم الجميلة مع قلة الأخطاء الإملائية.
عندما علم أحد الدارسين أننا من جريدة (الجزيرة) قال: إنني بسبب هذه المراكز الصباحية تعلمتُ القراءة وصرتُ أقرأ (الجزيرة) يومياً وبانتظام..!!
أحد الدارسين قال لنا: كنت أعتمد على أولادي في قراءة الصحف والكتب والخطابات، والآن أصبحت أعتمد على نفسي..
|