القرشي.. وشويعر
درسنا وسمعنا وقرأنا عن الخصومات الأدبية والمساجلات الفكرية والمعارك القلمية منذ ان وجد الفن، واختلفت الأذواق في تلقي الأثر الفني بين راض مغال في رضاه وساخط غير مقتصد في سخطه، وكان لا بد أن تتباين الأذواق وتختلف الآراء ازاء الاثر وصاحبه وقرائه.
وعندما حاولت صفحاتنا الأدبية ان توجد حركة نقدية بعد ان وجدت الحركة الأدبية، ظل البعض ان النقد لا يتم إلا بتبادل الاتهامات والتجريح وتسفيه الآراء والتعرض للأشخاص دون آثارهم، وساقهم الظن الى الاعتقاد بأن ذلك هو ما يدعى بالنقد الأدبي، وإلا اتهمت حياتنا الأدبية بالعقم وقلة الخصب، وبدأ هذا البعض يهش آثارنا الأدبية بعصاه بدلاً من أن ينبه الى ما فيها من جمال وقبح بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي رفق وهدوء واتزان وروية.
فما أن يتم لقاء بين أديب وآخر وينشر ما دار بينهما على الملأ حتى يظن البعض ان من حقه ان يخالف كل كلمة قالها أحد الأدبيين، وهو حريص على ان يكون من النقاد رغم أنف النقد وما يجب أن يصطنعه الناقد من أدوات في مقدمتها سعة العطن ودراسة ما قيل لا من قال.
وحقا ما قال شويعر: في ثنايا مناقشته لآراء القرشي من ان غرابيل الصحافة عندنا قد اتسعت خروقها حتى أصبحت تنفذ منها الأشجار والاحجار، وأي احجار اشد من هذه التي رجم بها شويعر القرشي.سقت هذه المقدمة لأخلص منها الى مناقشة الزوبعة الأدبية التي اثيرت على صفحات مجلة اليمامة الاسبوعية حول ما قاله الشاعر حسن عبدالله القرشي في اللقاء الذي اجراه معه الأستاذ خالد الدخيل في العدد 106 من مجلة اليمامة الصادرة في السادس عشر من شهر ربيع الأول عام 1390هـ وما عقب به الأستاذ شويعر في ثلاثة أعداد متوالية هي العدد 108 الصادر في 30 ربيع الأول عام 1390هـ والعدد 110 الصادر في 14 ربيع الثاني عام 1390هـ والعدد 111 الصادر في 21 ربيع الثاني عام 1390هـ.
وعندما أناقش هذا الموضوع فأنا لست محاميا يدافع عن متهم ويفند آراء المدعي العام وانما هي قضية أدبية بالدرجة الأولى تتعلق بمقاييس النقد، أحسست ان الاستاذ شويعر قد تخطاها وحاد عنها عندما ناقش اقوال القرشي، ورسالة الصفحات الأدبية هي الدفاع عن المقاييس النقدية والحرص على عدم الخروج عليها، وإلا فالاستاذ القرشي ليس عاجزا - وقد قال ما قال - ان يدافع عن وجهة نظره.
وهناك نقطتان لا بد من ذكرهما هنا كمقياسين لا مندوحة من وضعهما في الاعتبار اعتبار الناقد عندما يمسك بالقلم محاولا تقويم أي عمل إنساني.
النقطة الأولى هي: يجب أن يتساءل الناقد عن طبيعة العمل الذي يريد مناقشته هل هو عمل تقرير علمي يتناول الاحداث الخارجية التي لا دخل للمشاعر فيها؟ عندئذ سيجد الناقد ان هذا العمل يدخل في باب البحت وللبرهان عليه لا بد من اصطناع النقد العلمي.
النقطة الثانية هي: هل هذا العمل فني تعبيري، يعبّر عن ذات الفنان حتى عندما يتناول القضايا الخارجية عن ذاته فإنه يعبّر عنها كما أحسها هو وكما تلقاها بوجدانه الفني، لا كما هي بالضرورة في عالم الواقع دون زيادة ولا نقصان.
وفي هذا العمل الفني التعبيري لا يستطيع الناقد بل لا يجب عليه ان يطالب الفنان بالبرهان لأن الأمر خاص به، فإذا قال العالم ان هذه البحيرة مليئة بالحشرات الناقلة لمرض الحمى الصفراء، قلت له هات دليلك، أما اذا قال الشاعر: يا لها من بحيرة جميلة، فليس من حقنا ان نطالبه بالدليل فالصدق العلمي غير الصدق الفني.
وبعد:
فماذا قال القرشي عن الشعر الحر، وأمارة الشعر والمرأة؟ وكيف ناقش الشويعر مقالة القرشي؟
سئل القرشي: أيهما افضل تصويرا وأقوى تعبيرا من الآخر، الشعر الحر أم المقفى؟ فأجاب: «الشعر العمودي أقوى تأثيرا في بعض النفوس وأسهل حفظا كقضية مسلمة والشعر الحر أقدر على الرمز وأسهل في تصوير الشعور.
وإجابة القرشي هنا صادقة صدقا فنيا مبنيا على تجربته الذاتية فهو شاعر قد مارس المذهبين من مذاهب الشعر وله فيهما انتاج غزير، لا شك يعرفه شويعر، فقوله اذن قول مجرب عانى النظم على الطريقين وانتهى الى هذه النتيجة التي أعلنها.
وكنا نتوقع من شويعر وقد تصدى لمناقشة هذا الرأي ان يأتينا بنصوص من الشعر العمودي وأخرى من الشعر الحر ثم يبرهن لنا من خلال دراسته لتلك النصوص ان الشعر العمودي لا الحر هو الاقدر على الرمز والأسهل في تصوير الشعور، وبذلك يرد على القرشي رداً مقبولاً ولو فعل لوجد فعلا في الشعر العمودي قدرة لا تجارى في الرمز وتصوير الشعور، أما ان يستنتج شويعر من قول القرشي «ان الشعر الحر اقدر على الرمز وأسهل في تصوير الشعور»، ان القرشي اراد بقوله ذلك هدم الوزن والقافية بحجة ان ترك الوزن والقافية يساعد على الاتيان بشعر حضاري يتفق مع روح العصر.. ثم يبني شويعر نقاشه كله على هذه الفرضية التي اخترعها ويتقول على القرشي الأقاويل ثم يأخذ في استعراض تاريخ الأدب العربي كله خلال عصور اشراقه وانحطاطه، فهذا هو العجب العجاب، فهذه طريقة فذة وجديدة في النقد لم نسمع بها من قبل.
ويستمر الشويعر في خطابيته التي تسوقه الى اصدار هذا الحكم العجيب على الأدب العربي المعاصر وهو أنه عندما يصل الى الأدب العربي المعاصر يصعر خده لكل الإنتاج الأدبي العربي ويحكم عليه بالضحالة ويستثنى الشاعر العراقي احمد الصافي النجفي لأن غيره من الشعراء العرب خلال المائة عام الماضية لا يملكون - على حد تعبير شويعر - الشخصية القوية التي كان يتمتع بها أجدادهم الجاهليون.
ثم يأتي الشويعر بأبيات للشاعر النجفي هي غاية في الركاكة والسماجة والغثاثة، ولو كلف الشويعر نفسه بعض العناء لوجد للنجفي آيات من الشعر غير هذا الغثاء الذي لا أظنه يشرف النجفي. وبذلك يختم الحلقة الأولى من مناقشته ويعلننا أن للبحث صلة وكأنه قد فرغ في الحلقة الأولى من تقنين وتحديد قواعد الشعر العربي كله ومدارسه واتجاهاته ورسم بذلك للشعراء المحجة التي اذا خرجوا عنها فهم لا بد هالكون.
فاذا كانت الحلقة الثانية تتبع شويعر التطبيعات التي جاءت في مقاله الأول ولام كتاب المطابع على البتر والتصحيف والتحريف في مقالته الأولى، ثم أكمل لنا قصيدة الشاعر النجفي لتتم الفائدة على حد زعمه، ثم يتابع حملته على الذين يحاولون تهديم عمود الشعر ليفصلوا الجيل العربي الحاضر عن تراثه الماضي.
ولست أدري اذا كان شويعر قد قرأ جواب القرشي عندما سئل عن الأشياء التي تربط شعرنا الحديث بشعرنا القديم فقد اجاب القرشي قائلاً: صحيح ان التيارات المعاصرة ووسائل المدنية الحديثة التي غزت وتغزو كل المجتمعات الراهنة في كوكبنا الارضي قد اصبحت عاملا مهما في ربط المجتمعات البشرية بعضها ببعض، ولكن الجذور الأساسية لكل بيئة مازالت هي العامل الفعال والأقوى في ربط الحاضر بالماضي والحديث بالقديم.
ويختم شويعر مقالته الثانية بنتيجة انتهى اليها ولم نعرف مقدمتها فيقول:
ومن هنا نخلص الى نتيجة واحدة وهي ان مجموع هذه الآيات الكريمات تدعو في غايتها الى استقامة الإنسان في سلوكه وتفكيره وفي علاقته بالآخرين، وإذاً فلا شك ان الإنسان صاحب الإيمان، صاحب العلم وبالتالي صاحب الاستقامة سيكون اسهامه في بناء الحضارة اسهاما حضاريا صافيا يعبر عن الحضارة في أجلى صورها، ولسنا في حاجة الى المزيد من ضرب الأمثلة علي ذلك..؟علام؟
أما الموضوع الذي وعد بمناقشته فلا شيء عنه لا شيء بالمرة.
فإذا كانت الحلقة الثالثة والأخيرة تناول شويعر رأي القرشي في المرأة وامارة الشعر.
أما في امارة الشعر فلم أر الشويعر اتى بشيء أكثر من ان فصّل ما اوجزه القرشي فكأنه بذلك يؤيد القرشي فيما ذهب اليه بينما المفروض ان يناقشه وينقده ويرد عليه، وعندما تحدث عن رأي القرشي في المرأة لم يعجبه ما استشهد به القرشي من قول الثري اليوناني «اوناسيس» في المرأة، فذهب شويعر يقترح ما كان يجب ان يقوله القرشي في المرأة.
ثم ساقه الاستطراد كعادته الى حديث طويل عن المرأة المسلمة وواجباتها وحقوقها - التي لا اظن القرشي يجهلها او ينكرها - وكيف ان المرأة الغربية قد فقدت مقومات انوثتها يوم ان تشبهت بالرجل وتركت عشها وصغارها.
ومع ان قضية الحجاب والسفور لم يرد لها ذكر مطلقا في حديث القرشي إلا ان شويعر تطوع بطرق هذا الموضوع وسرد الآيات والأحاديث وضرب الأمثال في تأييد ما ذهب اليه مما جعل القراء يحسون انها قضية مقحمة لا داعي لها البتة. وفرغ قراء مجلة اليمامة من قراءة مناقشات شويعر خلال ثلاثة اسابيع وهم لا يدرون عم يتحدث وما الذي أراد أن يقوله؟
وانه لكسب كبير للأدب أن تثار قضاياه وتناقش ونتبادل الآراء حوله. ولكنها أيضاً خسارة فادحة وجسارة ان يتصدى الإنسان لما لا يعرف ولا يحسن الخوض فيه.
المحرر
|