Wednesday 30th april,2003 11171العدد الاربعاء 28 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الفتوى والاستفتاء الفتوى والاستفتاء
في البرامج الإعلامية المباشرة «1-3»
فريد بن عبدالعزيز الزامل السليم/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم

إن الله تعالى أمر العباد بطاعته وعبادته فيما شرع لهم، وأمرهم أن يتعلموا ما تستقيم به عبادتهم، متابعين سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جعل بعض العلم فرضاً عينياً، يجب على كل فرد، وهو ما يحتاجه في تأدية عبادته الواجبة.
والفتوى من أهم سبل التعلم، إذ إن جميع فئات المجتمع المسلم تشترك في اتخاذها سبيلاً له، فإن الفتوى مشروعة للعامي، وطالب العلم الصغير والمتوسط، والعالم المقلد، وهذه الأصناف تشكل غالب المجتمع، أما العلماء المجتهدون فقد نُصّ على عدم جواز تقليدهم مع علمهم بالأدلة.
ولهذه المكانة التي تبوأتها الفتوى عُني بها العلماء عناية عظيمة، فبحثوا مسائلها في أبواب أصول الفقه، كما صنفوا فيها التصانيف المختلفة، المطولة والمختصرة.
ولهذه الأهمية العظمى، وشديد التصاقها في حياة الناس خصص لها في الوقت الحاضر برامج خاصة في قنوات الاعلام المختلفة، المقروءة والمسموعة والمرئية، وقد اختلفت مناهج تلك البرامج اختلافاً ظاهراً، مما أوجد لكل منهج سلبيات وإيجابيات، كما أحدث تفاعلاً متفاوتاً من الجماهير، محموداً وغير محمود، سأحاول في هذه الصفحات- بإذن الله تعالى- عرض ذلك، منظّراً ومناقشاً.
برامج الفتوى
برامج الفتوى في الإعلام المعاصر تظهر في نوعين من الإخراج:
الأول: برامج الفتوى المسجلة: تستقبل هذه البرامج أسئلة الجمهور قبل بث الحلقة، وتُعرض على المفتي، يتفحصها ويعد الإجابات والتوجيهات، ثم تعرض الحلقة على شكل أسئلة وأجوبة، يلقيها المفتي أو تلقى عليه الأسئلة ويتولى هو الإجابة.
ويتسم هذا الشكل بميزات عديدة، من أهمها عدم ارتجالية المفتي التي قد تؤدي إلى الغلط. وهذا النوع ليس موضع الحديث.
الثاني: البرامج المباشرة، التي يلقى فيها السؤال على المفتي أثناء عرض الحلقة، ويتولى الإجابة على الفور. وهذا موضع حديثناً.
برامج الفتوى المباشرة
والواقع أن هذا الشكل من برامج الفتاوى هو صاحب القدح المعلى في الفترة الأخيرة.. لكثرة القنوات الفضائية التي تتسابق لكسب أكبر عدد ممكن من المشاهدين، مع كونها تتحرك في حرية تامة أو شبه تامة فيما تبث، فهذا الشكل هو الاوسع انتشاراً، والأكثر قبولاً، لما فيه من ميزات كثيرة، فهو يستجيب لداعي العجلة المغروس في كل فرد.. ويكفي المستفتي عناء الانتظار والارتقاب لحين عرض مسألته في البرامج المسجلة، كما أن المستفتي يختار بنفسه العالم الذي يطرح عليه أسلئته، وهذا لعله: يختلف في البرامج التي تعرض الأسئلة فيها على أكثر من عالم.
ولهذه البرامج صورتان تقدم فيهما الأسئلة، الأولى: أن يستقبل مقدم البرنامج مجموعة من الأسئلة، ثم يعرضها على العالم بعد ذلك واحداً واحداً، والثانية: أن يستقبل المعد كل سؤال على حدة، ويعرضه على العالم مباشرة، وربما حاور العالم السائل، ولكل من الصورتين محاسن ومساوئ، أعرض لها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
مع اختلاف الفقهاء
لكل عالم مذهب معين ينتمي إليه، كما أن له اجتهادات خاصة يفتي فيها بما ترجح عنده من الأدلة، لهذا يحدث الاختلاف بين المذاهب، كما يحدث بين أقوال العلماء الخاصة المبنية على اجتهاداتهم.
وكل بلد من البلدان الإسلامية يعتمد مذهباً تعمل فيه مؤسساته الشرعية على اختلافها، ويفتي فيه علماؤه، أو يكون منطلقاً لاجتهاداتهم الشخصية، وعلى ذلك انبنت أعراف وتقاليد تلك البلدان، وعلى تلك الفتاوى سار أبناؤها، وتوارثوا عاداتهم جيلاً بعد جيل.
وكان الإفتاء بغير المذهب السائد يعد أمراً غير مرغوب فيه، ويفضي إلى النزاع والاختلاف والتفرق، ولذا أشار إليه العلماء المتقدمون، وبينوا خطره وما يحدثه، قال الشاطبي رحمه الله، في معرض، حديثه عما في تتبع رخص المذاهب من المفاسد: أنه يفضي إلى ترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم، لأن المذاهب الخارجة عن مذهب مالك في هذه الامصار مجهولة«2». وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي عليه رحمه الله في رسالته عن حكم شرب الدخان:«والعوام تبع للعلماء، فلا يسوغ ولا يحل للعوام أن يتبعوا الهوى ويتأولوا، ويتعللوا أنه يوجد من علماء الأمصار من يحلله«يعني الدخان» فإن هذا التأويل من العوام لا يحل باتفاق العلماء، فإن العوام تبع لعلمائهم ليسوا مستقلين، وليس لهم أن يخرجوا عن أقوال علمائهم.. وما نظير هذا التأويل الفاسد الجاري على ألسنة بعض العوام اتباعاً للهوى لا اتباعاً للحق والهدى إلا كما لو قال بعضهم يوجد بعض علماء الأمصار من يبيح ربا الفضل فلنا أن نتبعهم، أو يوجد من لا يحرم أكل ذوات المخالب من الطير فلنا أن نتبعهم، ولو فتح هذا الباب فتح على الناس شر كبير، وصار سبباً لانحلال العوام عن دينهم وكل أحد يعرف أن تتبع مثل هذه الأقوال المخالفة لما دلت عليه الأدلة الشرعية، ولما عليه أهل العلم من الأمور التي لا تحل ولا تجوز»«3».
الواقع المعاصر لا يعترف بالحدود الجغرافية والأعراف الإقليمية، وهذه إشكالية كبيرة، إذ يفتي المفتي بفتوى تبيح أمراً قد استقر في أذهان فئة معينة تحريمه، فهذا يحدث إشكالاً كبيراً، فمن أمثلة ذلك: أن سائلة سألت مفتياً في إحدى القنوات الفضائية، عن حكم كشف الوجه، فأفتاها أن النقاب هو الأفضل، لاسيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وإن كشفت وجهها وكفيها فقط فلا بأس.
هذه الفتاوي صالحة لمجتمعات معينة، لكنها لو عمل بها في مجتمعات أخرى مثل مجتمعنا السعودي، لاحدثت فوضى كبيرة، إذ إن أولياء الأمور، ورجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمجتمع بأسره لا يقبل كشف الوجه، بل يعاقب على ذلك، بل إن كثيراً من النساء الحريصات على العفة والستر في مجتمعنا، لا يرضين بالظهور أمام الأجانب إلا بالعباءة السوداء، الساترة لجميع البدن، ولا يرضين بغيرها من الأغطية التي قد تستخدمها بعضهن أمام غير المحارم من الأقارب.
فمثل هذه الفتوى لو تعامل المجتمع معها بالرفض التام والتجاهل، لكان الوضع مقبولاً طبيعياً، إذ يستفيد منها غيره، لكن الواقع أن مثل هذه الفتاوى تجر وراءها محظورات متعددة، منها:
1- التطلع إلى آراء العلماء الآخرين، ومتابعتها، لأنها وافقت هوى في نفوس البعض، وإن كان أولئك العلماء أقل علماً وورعاً.
2- ضعف الثقة بعلماء البلد، الذين هم أعلم الناس بأحوال المجتمع وعاداته وتقاليده.
3- العمل ببعض هذه الفتاوى دون رضا من المجتمع والسلطة، مما يسبب خللاً ظاهراً، كالعمل بفتوى من جعل الطلاق الثلاث في مجلس واحد طلقة واحدة، أو العمل بفتوى من أباح كشف الوجه، في مجتمع كل نسائه يغطينه.
4- إنكار هذه الفتاوى، ورميها بالخطأ من قبل محافظي المجتمع، مع أنها قد تكون أقوى دليلاً مما تمسك به ذلك المجتمع.
5- رمي المفتين بهذه الفتاوى بالضعف، وقلة العلم والورع، واتباع الهوى، مع أنهم قد يكونون على خلاف ذلك تماماً، فقد صدرت بعض الكتب في نقد بعض العلماء نقداً لاذعاً، بسبب فتاواهم المخالفة لآراء هؤلاء المؤلفين.
6- أن المسارع للعمل بالفتاوى الميسرة المخالفة لمذهب البلد، هم من الفئة المتساهلة، التي يقل عندها جانب الورع الواجب، فتكون هذه الفتاوى سبيلاً للوصول إلى المحرم المتفق على تحريمه، أما محافظو المجتمع فالغالب أنهم لا يعملون بهذه الفتاوى إلا في حالة الضرورة أو الحاجة الملحة.
ولعل المسلك القويم، الذي ينبغي اتباعه، يتلخص في:
1- أن على المفتي إذا سئل عن مسألة من هذه النوع، أن يبين أقوال العلماء فيها، ووجاهة كل رأي، وأن يربط كل مجتمع بعلمائه، بحثهم على اتباع علمائهم، وعدم تتبع أقوال العلماء بدافع من الهوى، ثم يفتي بما يراه هو، إذ إنه بذلك يعطي كل مستمع ثقة بمفتيه الأول، ووجاهة رأيه، ويكون المحظور منتفياً أو قريباً من الانتفاء في هذه الحال، وخاصة إذا جعل منهجاً له، وعرف به، أما أن يعمد بعض العلماء إلى تقليل أهمية الأقوال الأخرى، ووصم الخلاف بالضعف، مع قوته، فهذا خلاف الواجب، قال بعضهم، هذه مسألة اتفق عليها العلماء، إلا واحداً أو اثنين، وهذا لا يشكل شيئاً أمام إجماع الأمة، مع أن المسألة قد قال بها كثير من المتقدمين قبل المعاصرين الذين لم يأبه برأيهم.
2- أن يعمد علماء كل بلد «أو مجتمع» إلى بث برامج للفتاوى على غرار العلماء الآخرين، حتى يسهل توصل المستفتي إلى العالم الذي يحسن أن يستفتيه، ولا يضطر إلى علماء آخرين، قد يشوشون ثوابته». «4».
المفتي والهوى
من المؤسف حقاً أن يكون بعض المفتين على غير ما يجب أن يتمثلوه من تحري الصواب، واتباع الحق، إن فئة منهم تتحرك بدافع من الهوى والشهوة، فتنجر إلى الإفتاء بما يتوافق مع الأهواء لمقاصد سياسية أو مالية، أو لكسب قبول الجمهور، أو غير ذلك، قال د. يوسف القرضاوي: ومن أشد المزالق خطرا على المفتي أن يتبع الهوى في فتواه، سواء هوى نفسه أو هوى غيره، وبخاصة أهواء الرؤساء وأصحاب السلطة، الذين ترجى عطاياهم، وتخشى رزاياهم، فيتقرب إليهم الطامعون والخائفون، بتزييف الحقائق، وتبديل الأحكام، وتحريف الكلم عن مواضعه، اتباعا لأهوائهم، وإرضاء لنزواتهم، أو مسايرة لشطحاتهم ونطحاتهم.
ومثل ذلك اتباع أهواء العامة، والجري وراء إرضائهم، بالتساهل أو بالتشدد، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق. لقد عمد بعضهم إلى التقاط شواذ الأقوال، وأفتوا بها الناس، غير خائفين ولا وجلين من عواقب ذلك وما يترتب عليه، إن ترجيح آراء العلماء بدافع من الهوى مضاد لما أمر الله به، من الرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع، قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله... ولم يفلح من جعل من هذا الخلاف سبيلاً إلى تتبع رخص المذاهب، ونادر الخلاف، وندرة المخالف، والتقاط الشواذ، وتبني الآراء المهجورة، والغلط على الأئمة، ونصبها للناس ديناً وشرعاً.. ومنها إصدار الفتاوى الشاذة الفاسدة، مثل الفتوى بجواز الفوائد الربوية، وشهادات الاستثمار، وسندات الخزينة، وفتوى إباحة التأمين، وفتوى إباحة السفور، وفتوى إباحة الاختلاط، وكلها فتاوى شاذة فاسدة، تمالئ الرغبات، وبعض التوجهات..«6».
الهوامش:
1- نهاية الوصول إلى علم الأصول 2/687، والإبهاج في شرح المناهج 3/271، ومجموع الفتاوي 19/261.
2- الموافقات 5/102 «بتصرف يسير».
3- حكم شرب الدخان: 10-11.
4- هي ثوابت باعتبار المستفتي لا باعتبار الواقع الفقهي.
5- الفتوى بين الانضباط والتسيب: عن موقع المؤلف على الشبكة العنكبوتية.
6- المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب 1/108،107.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved